الله محيي الثابت: بين حسنات الثبات وسيئات التحجر

 

تحمل مقولة “الله محيي الثابت” في طياتها قيمًا عميقة للثبات والاستقرار في الحياة، تحمل عرفاناً وتشريفاً لأولئك اللواتي والذين لا تزحزحهم مغريات الحياة عن مبادئهم ولا يخشون من الوقوف وراء ما يؤمنون به من قيم, ومع ذلك، يظهر أن بعضنا قد يفهم هذا الثبات بشكلٍ غير صحيحٍ، مما يؤدي في أغلب الأحيان إلى تحوّل المقولة الشائعة في المجتمع السوري إلى دعوةٍ للتحجر الاجتماعي الجمعي، تحجّرٌ يضعنا خارج الزمان والمكان، ويهددنا كمجموعٍ بالاندثار والاضمحلال. دعونا نلقي معاً نظرةً مقرّبةً على هذه المقولة في محاولةٍ لسبر حسنات الثّبات فيها وسيئات التحجر.

فوائد الثبات:

يُعتبر الثباتُ ركيزةً أساسيةً للاستقرار النفسي والعاطفي للأفراد وهناك الكثير من الكتابات والدراسات التي تبحث في أهمية توفير مستوياتٍ معينةٍ من الثبات والمعروف في حياة الأفراد لضمان صحتهم النفسية والعقلية، هذا المستوى من الثبات الذي يشبه الهيكل العظمي في شخصياتنا، بدونه نفقد هوياتنا وبدونه لا يعود لمرونتنا معنى ولا يعود لنمونا معيارٌ لقياسه. يمكن أن يسهم الثبات في بناء حياةٍ قائمة على قيمٍ مستدامةٍ ومستقرة. ومما لا شك فيه أنّ الاستمرارية في تأكيد القيم المطلقة تعزز الانسجام والارتياح الشخصي. ينطبق الأمر ذاته على الجماعات والمجتمعات، فمن دون ثوابتَ قيميةٍ وثقافية تفقدُ المجتمعاتُ مقوماتِ هويتها الجمعية. إذا غدا مجتمعٌ ما اسفنجةً تشرب كلّ موضة وكلّ نزعة وكلّ توجه، وكلّ منظومةٍ قيمية، اقتصاديةٍ، اجتماعيةٍ، ثقافيةٍ، سياسية من هنا ومن هناك بتغيّرٍ مستمر، فإنّ هذا المجتمع سيتحول سريعاً إلى هلامٍ عديم الملامح ومعدوم الهوية. لكن …كما أنّ الهيكل العظمي لأجسادنا ثابتٌ ومتحركٌ في آنٍ معاً، كذلك هياكل المجتمعات العظمية برأيي يجب أن تكون ثابتةً بالقدر الذي يحفظ للمجموع كينونته، ومتحركة بالقدر الذي يساعد هذا المجموع على العيش بفاعليةٍ من جهة، وعلى النمو أثناء هذا العيش من جهةٍ أخرى  .

مرونة التفكير:

أظن أن الفكرة قد بدأت تتضح لكم الآن، فمع كل الفوائد ومع أهمية وضرورة الثبات، يظهر أنّ الثبات الزائد يمكن أن يؤدي إلى التحجر الاجتماعي، وهنا مربط الفرس كما يقولون، عندما نصبحُ عصينين على التغيير ولا نتسامح مع التنوع، نفقدُ فرص النمو والتطور. إنّ التفكير المرن يسمح لنا بقبول الجديد ويفتح الأفق لفهمٍ أعمق للعالم من حولنا، وهذا يشمل قدرتنا على امتحان وتمحيص مكونات ثوابتنا ومنظوماتنا القيمية. ببساطةٍ، يسمح لنا التغييرُ بصيانة هيكلنا العظمي باستمرار، تبديل ما خرب منه، تقويم ما اعوّج، ترميم ما فني …الخ، وإلا فإنّ هذا الهيكل العظمي سيتحول لهيكل ميتٍ، منخورٍ، لا يستطيع حمل نفسه و سيتهاوى عند أول نسمة. يقول الفيلسوف اليوناني القديم هيراكليتوس في المقولة الشهيرة التي تُنسب إليه: “ التغيير هو الثابت الوحيد في الكون” وبالتالي فإننا عندما نقاوم التغيير فإننا نقاوم قانون الوجود وكأننا نقطع لأنفسنا تذكرةً باتجاهٍ واحدٍ: خارج الزمان والمكان.

التوازن الأمثل:

إذاً حتى نكون واقعيين، علينا أن نُقرّ بأنّ الثبات له دوره الخاص، وأنّ المرونة لها دورها الخاص، و أننا يجب أن نعمل على خلق توازننا الخاص بين الثبات والمرونة. هذا التوازن الذي يحفظ علينا هيكلنا العظمي من جهة، فلا نتحول لمجتمعات هلامية عديمة الملامح، ويزيّتُ مفاصل هيكلنا العظمي من جهةٍ أخرى، فيضمن لنا حرية الحركة والتعبير والنمو. البحث عن التوازن الأمثل يسمح لنا بالاستمتاع بفوائد الثبات دون أن نقع في فخ التحجر الاجتماعي الكفيل بتهديد كينونتنا الهوياتية والثقافية بالاندثار.
إنّ مقولات من مثيل “الله محيي الثابت” يمكن أن تكون بلا شك مصدرًا للثبات الإيجابي، ولكن يجب علينا أن نكون حذرين أيضاً لعدم الانغماس في تحجرٍ يمنعنا من تجربة الحياة بكل تنوعها وغناها. الحياة تحدث عندما نكون أحياء نتجدد و نتغير، وليس عندما نكون مجرد جماداتٍ لثوابت … أرادت أصابعي أن تكتب: “وحدهم الموتى لا يتغيرون” ثمّ أدركت سريعاً أنّ حتى الموتى يتغيرون، ينتقلون من عالمٍ محسوسٍ إلى عالمٍ ما ورائي، وحتى في العالم المحسوس يتغيرون من أجسادٍ إلى تراب … يبدو فعلاً أنه كما يقول هيراكليتوس: التغيير هو الثابت الوحيد في الكون.

وأنتم، ما هي آراؤكم حول الثبات وكيف يمكن تحقيقه بشكلٍ صحيح؟ هل تشعرون بأنّ هناك حاجةٌ إلى التغيير في تفكيرنا حول هذا الموضوع؟ شاركوني تجاربكم وآرائكم عبر التعليقات أو على منصات التواصل الاجتماعي.

وفي المرة القادمة التي تجدون ألسنتكم فيها تقول: “الله محيي الثابت” حاولوا سبر الثبات الذي تطرون عليه.

:

 

Tell me what you think, leave a Reply