تذكر يا حبيبي

هل هناك أغنيةٌ يمكن أن تجعلنا نشعرُ أننا بلا وطن؟ … سألتُه
أطرَق … و أجابني مرنّماً  Hatırla sevgili أو تذكر يا حبيبي … هل تعرفين هذه الأغنية؟

قلتُ: لا أعرفها

بحثَ عنها سريعاً على اليوتيوب و انسابت النغمات مع الكلمات التركية القديمة التي ملأت الفضاء بيننا بنوستالجيا غير مفَسَّرة …

صمتَ برهةً مستمعاً للأغنية القديمة ثم قال: حين كنتُ صغيراً في حلب … صغيراً جداً في زمانٍ لم تكن بعد ذاكرتي الصوريّة قادرةً على الاحتفاظ بأيّةِ صور، لكنّ سنواتي القليلة حينها كانت كافيةً لتكون ذاكرتي السمعيّة بجاهزيتها الكاملة … كنتُ ألعبُ لاهياً في زوايا بيتنا الحلبي وكانت نغمات البيانو تأتيني دون استئذانٍ وتلفّني في سحرها فترسم مخيلتي صوراً لأمي في الغرفة المجاورة، جالسةً أمام هذا الشئ الخشبي الكبير، وبحركاتٍ سريعة من أصابعها الصغيرة على المفاتيح البيضاء والسوداء تخلقُ هذه النغماتِ السحريّة لتضفي على منزلنا ذلك اللون الذي كنتُ مؤمناً تماماً حينها أن لا أحد غيري يستطيع أن يراه …
وأسمع أمي تترنم وأنا ألعب … تذكر يا حبيبي …. وكأنها تخاطبني، وأشعر أنني أحمل تلك المسؤولية المقدسة … أمي توصيني أن أتذكر … وأنا  سأتذكر دوماً … كنت أشعر أنّي مختلفٌ رغم أنني لم أعرف كُنْهَ هذا الاختلاف وقتها أو ماهيته، ولم أستطع أن أضعه في كلمات …
أمي، التي لم تكن كباقي الأمهات … تجلس وحيدةً أمام هذا البيانو عازفةً تلك الأغنية التي لا تشبه كلّ الأغاني العربية التي ترددها باقي الأمهات وترقص القريبات والجارات عادةً على أنغامها … أغنيةً بلغةٍ أخرى … بهويةٍ أخرى ….
ترى بماذا تفكر أمي؟ ترى ماذا تستدعي في ذاكرة أمي من صورٍ هذه الأنغام وهذه الكلماتِ التي لا تشبه اللغة التي تلفظ بها باقي الأمهات هنا كلماتهن؟ … صورٌ ربما من مكانٍ بعيد … من زمانٍ بعيد ربما … لا أدري … لكنّي أدري أنها كانت تشعرني أنني مختلفٌ عن بقية الأولاد … هذه الأغنية قد حفرت في كياني الحلبي الصغير وقتها هويةً تركية … كانت دوماً تذكرني أننا من مكانٍ آخر …. من مدينةٍ أخرى 
وتمرّ الأعوام … ثلاثون عاماً أو يزيد … هل هناك أغنية يمكن أن تجعلنا نشعر أننا بلا وطنٍ تسألين …
وأستيقظُ اليوم على صباحٍ من صباحات استنبول الربيعية … تفترش أشعة الشمس زوايا بيتنا الاستنبولي في هذه الساعات المبكرة من النهار، وتسبح في فضائه   Hatırla sevgili … ذاتُ النغمات من ذاتِ البيانو الخشبي العتيق، من ذات الأصابعِ الصغيرة التي شاخت لكن ما غيّرت السنون من سرعةِ حركتها بين ذاتِ المفاتيح البيضاء والسوداء … كل شئٍ بقي كما هو … لم يتغير شئٌ إلا المدينة … لكن ألا تغيّر المدينةُ فينا كلّ شئ؟؟ …. ألا ترسمُ المدنُ كياناتنا وانتماءاتنا؟ …. ألا تصوغُ ذكرياتنا وتروي خيالاتنا؟ …. ألسنا نحن ذاكرة المدينة؟ … أليست المدينة ذاكرتنا؟ … ترى من يصنع الآخر؟ … هل نحن نصنع مدننا أم تصنعنا المدن؟ … وهل نحمل المدن في خيالاتنا أم تحملنا المدن في خيالاتها؟ … هل تقرر المدن لغاتها؟ أم تقرر اللغات مدنها؟ … هل نعطي مدننا هويتها؟ أم تعطينا مدننا هويتنا؟ … هل تختار المدن صورساكنيها؟ أم تختار صور الساكنين مدنها؟ … هل تشبه وجوهنا مدننا؟ أم تشبه مدننا وجوهنا؟  …
وتُراني أسأل نفسي هذا الصباح، بعد ثلاثين عاماً، ذات السؤال الذي كنت أسأله لنفسي في ذاك الزمان، في تلك المدينة … ترى بماذا تفكر أمي؟  ترى ماذا تستدعي في ذاكرتها من صورٍ هذه الأنغام، وهذه الكلمات التي تشبه اليوم اللغة التي تلفظ بها باقي الأمهات هنا كلماتهنّ …
هل صورٌ من زمانٍ بعيد في ذاكرتي في حلب … أم صورٌ من زمانٍ أبعد في ذاكرتها في مكانٍ ما في تركيا …
واجتاحني مجدداً ذاك الشعور بالاختلاف … نفس الأغنية التي كانت تذكرني دوماً بأني مختلفٌ عن البقية حين كنت طفلاً صغيراً لا أزال في حلب ….  نفس الأغنية التي كانت تذكرني دوماً أنني لست حلبياً فقط بل أنا تركي أيضاً … ما زالت تذكرني اليوم وأنا في استنبول بأنني مختلفٌ عن البقية، بأنني لست تركياً فقط بل أنا حلبيٌ أيضاً … طبقات وطبقات من الهويات، تتداخل وتتشابك في كياني الإنساني هذا البسيط والمعقّد في ذاتِ الأوان … مالئةً نفسي بشجنٍ يخطفني من نفسي ومن زماني ومن مكاني  … يخطفني من مدينتي لمدينتي … كلما استمعت لهذه الأغنية … 
أراكِ تبتسمين رافعةً حاجبيكِ ابتسامةً أعرفها تماماً … أعلمُ أنك تعلمين عن أيّ تعقيدٍ  … وعن أي شجنٍ أتحدث … 
أعلم أنك تفهمين … ما معنى أن تذكركِ نفس الأغنية في مدينةٍ ما أنك من مدينةٍ أخرى، وتعود لتذكركِ وأنتِ في هذه المدينة الأخرى أنك من المدينة الأولى … أعلم أنك تفهمين كيف تصوغُ أغنيةٌ، تحمل صوراً من ذاكرة أمٍ تركيّة، هويةَ طفلٍ حلبي … وكيف تعود ذاتُ الأغنية التي تحمل الآن صوراً من طفولة صبيٍ حلبيٍ لتصوغَ هويةَ رجلٍ تركي ….
هل هناك أغنية يمكن أن تجعلنا نشعرُ أننا بلا وطن، ردّدَ سؤالي ثم صمتَ للحظة … ثم أطلقَ لحنجرتِه العنان مرنّماً بتلك الكلمات … تذكّر يا حبيبي …. وأتاني صوتُه عميقاً شجيّاً رقيقاً خجولاً كنايٍ قديم … و انسابت النغمات مع الكلمات التركية، التي ملأت الفضاء بيننا بنوستالجيا  … بتّ أعرف الآن ما تفسيرها …
سجّلي في دفترك الصغير هذا، قال لي …  أن هناك رجلٌ تجعله Hatırla sevgili يشعر أنه بلا وطن … أن هناك رجلٌ لا يمكن أن يكون مئةً بالمئة من مكانٍ ما … من مدينةٍ ما … 
سجلي أن هناك رجلٌ تجعله “تذكر يا حبيبي” يتذكر دوماً أنه من هنا … وأنه من هناك ….

أنه ربما … من كل مكان  … وأنه ربما … بلا مكان …. بلا وطن.

One Comment Add yours

  1. soooqi says:

    تحتار في وحي كلماتك ذاكرة تفصيلية
    وحنين وبحث عن هوية
    لكن افكار مبعثرة واضطراب الله يعلم ما تمرين به
    لكن موفقة واسلوب محبب

Tell me what you think, leave a Reply