بين ثورة قادة فصائل الغوطة اليوم وثورة عباد القادر وعباد الرحمن بالأمس … كان صرحاً من خيالٍ فهوى

 نشرت البارحة متهكمةً صورة لاجتماع قادة فصائل الغوطة سيئي الذكر فعلّق أحد الأصدقاء قائلاً: ريم هذه الصورة في مدينتي مارع، فأجبته مسكينة مدينتك يا محمد، فرد آخر لو تعلمين يا ريم مارع كانت مدينة رجل شريف اسمه حجي مارع … واجتاحتني الذكرى فعدتّ ونبشت في تدويناتي القديمة وبحثاً عنها بالتحديد، عباد القادر وعباد الرحمن …. وقرأتها …. أنا نفسي أكاد لا أصدق ما كتبت يداي في التاسع عشر من نوفمبر من عام ٢٠١٣ أي قبل قرابة الخمس سنوات …. هل تغيرنا إلى هذا الحد … أين أنتِ أيتها الروح التي كانت تسكن أحلامنا وآلامنا يوماً … ولماذا … لماذا وصلت بنا أيها الزمان إلى زمانٍ نألم ونبكي فيه بلا روح، وحتى نحلم إن تجرأنا على الحلم  بلا روح؟! وكيف بحق الله كيف وصلنا من زمان عبد القادر وعبد الرحمن إلى زمان قادة فصائل الغوطة … كيف؟؟!
لأجل الصدفة البحتة كنتُ قد علّقت البارحة عند أحد الأصدقاء وعلى موضوعٍ مغاير تماماً لموضوع قادة فصائل الغوطة، كان قد كتب منشوراً عن شخصيات المعارضة وفي التعليق قال لي تأملي بحال الثورة وحاضنة الثورة تأتيك الاجابات عمّا وصلنا إليه فرددتُ: أوووف اوووف ، يا حسرةً على الثورة وحاضنة الثورة … كان صرحاً من خيالٍ فهوى …. ثم قادتني صدفة التعليقات لتلك التدوينة القديمة و وجدت روحي تبكي هذه المرة وتقول: يبدو أنه فعلاً كان صرحاً من خيالٍ فهوى!
الكثير من إشارات الاستفهام … ترى هل من طريقٍ للنجاة؟ هل يمكن أن نجد الإجابات؟ … هل يمكن أن نعاود ايجاد تلك الروح الضائعة للثورة؟ …. ربما حينها قد نجد الطريق!
أدناه نص التدوينة القديمة: “عباد القادر وعباد الرحمن … وما النصر إلا من عند الله”

ارتباكٌ وجلبةٌ افتراضية تعمّ فضاء الفيسبوك منذ مساء البارحة، فقد تواردت الأنباء يوم الخميس عن اصابة قائد لواء التوحيد “عبد القادر الصالح” أثناء استهداف لأحد الاجتماعات وتم نقله إلى تركيا … “ادعوا له ياجماعة اصابته خطيرة”،  كتب أحد الزملاء باقتضاب …

مساء البارحة وصلنا خبر الوفاة … بين نفيٍ واستفهام وبعد ساعاتٍ قليلة تأكد الخبر، مع بزوغ ساعات الصباح اجتاح حائطي سيلٌ من التعازي والتحليلات والتساؤلات والتخمينات، بين جملةٍ قصيرةٍ هنا وتدوينةٍ أطول هناك ونقاشٍ محتدمٍ بينهما، كتب صديق: “علينا أن نقوم بواجب العزاء الشخصي لأهل الشهيد وعائلته، هناك ماهو اكثر من اللايكات والنواح على الفيسبوك” … نعم هذا صحيح، قلت لنفسي،  وأثناء تقليبي لكتابات اصدقائي، طالعني خبرٌ صغيرٌ على استحياء مرره أحد الزملاء على عجل:

“استشهاد البطل عبدالرحمن الخضر ، بطل من ابطال روافد المنظمة الأغاثية لمجلس ثوار ديرالزور، استشهد وهو يقوم بتنزيل شحنة من المساعدات الأغاثية …رحمك الله يا ابو احمد”

لم يأخذ هذا الخبر حتى ساعة رؤيتي له أي صدىً أو تعليق ومن وضعوا “اللايكات” لا يتجاوزون اصابع اليد الواحدة فالخطب جلل، وحجي مارع قد استشهد …

لكن الزمن توقف على شاشتي المنيرة الصغيرة، بهتت كل الالوان مستحيلة للون الرمادي وبقيت صورة عبد الرحمن بكنزته الزرقاء السماوية معلقةً كغيمةٍ وسط الرماد … تأملته طويلاً وهو يحدق إليّ وطيف ابتسامةٍ يحوم في المكان، لم أعرفه يوماً، كما لم أعرف الشهيد الآخر “عبد القادر” الذي رافقه على متن ذات الرحلة المغادرة إلى السماوات في ذاك اليوم من عمر الثورة السورية …. يا لسوء حظك يا عبد الرحمن، فقد استشهدت في نفس اليوم الذي استشهد فيه “عبد القادر” والناس منشغلون بعظيم المصاب …

دارت تلك الافكار ساخرةً مؤلمة في رأسي، واذا بطيف الابتسامة يغدو ضحكة “كلنا ياريم عباد الله … الرحمن هو القادر”

جفلت للحظة … أهي حقاً مصادفة؟! … ايماني باتفاق وتآمر الأكوان والخلائق لغايةٍ أسمى لايترك في ذهني مجالاً للصدفة .. اذا هي إشارة؟! … ربما تذكرة؟! … اغلقت حاسبي الصغير وسحبت الغطاء فوق رأسي محاولةً النوم …

أخذتني الأفكار التي أصرت على ملازمتي في رحلةٍ عبر الزمن إلى الماضي، عامان إلى الوراء …

“علينا أن نقوم بواجب العزاء الشخصي لأهل الشهيد وعائلته” … كنا نحاول وقتها الاتصال بعائلة كل شهيد، نحاول زيارة أم كل معتقل، نحاول الاطمئنان عليهم والوقوف إلى جانبهم في محنتهم، حتى زادت الأرقام، وزادت … وزادت فلم يعد ذلك ممكناً …. شدّت مركبة الزمن رحالها وقطعت عدة شهور ورمتني في تلك الغرفة في مبنى شؤون الطلاب في مونبيلييه، أنتظر دوري منذ حوالي الساعتين في تلك الغرفة الصغيرة المكتظة بالطلاب حين يأتيني إشعارٌ على هاتفي بأن غياث مطر استشهد، قد أعادوا جثمانه اليوم إلي عائلته … لم أعرف غياثاً يوماً بشكلٍ شخصي لكن الكثير من أصدقائه أو أقربائه أصدقائي … ماذا؟ استشهد تحت التعذيب! … خلت الغرفة فجأة وأطبقت جدرانها عليّ … دفعتهم عني بقوةٍ، بدفتر صغير وقلم، أخرجتهما من حقيبة يدي وبدأت أكتب … أكتب … رسالة إلى غياث الذي لم أره … تدوينة لم أنهها يوماً فقد أبى طوفان الدموع إلا أن يجتاحني يومها مخرجاً إيايي من الغرفة أمام دهشة الطلاب المنتظرين هناك من جميع الجنسيات ….

أبحرت مركبة الزمن من جديد … شهورٌ أخرى تمر … أجلس مساءً وحيدة كالعادة حين يرن الهاتف، ماريا تبكي بهلع وما استطعت تميزه من كلماتٍ  كان: “باسل استشهد …باسل مات بحمص … باسل راح ..لاء باسل لاتتركني”، في هذه المرة أعرف الشهيد أكثر والصدمة أكبر… أيام عديدة  من الدموع والألم … قبل أن تنطلق مركبة الزمن من جديد …

أكتوبر من العام الماضي … ستاتوس ليلي من كلمة واحدة لإحدى صديقاتي “استشهد” …. غار قلبي بين ضلوعي …. أعرف أنه غائبٌ منذ فترة … مختفي … معتقل … هل ننشر، لاننشر، نذكر اسمه في حملة ” لست مجرد رقم” … يفيد أم لايفيد ….لا أخبار عنه … ثم كلمة واحدة، قالتها زهرةٌ رحل عنها عطرها … قالتها دون أية شروح “استشهد” …. عرفت لأول مرة معنى المرارة … عرفت كيف تشتعل نيران الأسى في الجوف لساعات وأيام وأسابيع فهذه المرة أنس قد استشهد … رفيق الحلم، الفنان الخفيف الظّل الكريم الروح … أنس … استشهد تحت التعذيب … من يومها ما عدت أعد الشهداء وماعدت أمارس طقوس الحداد …..

كشفت عن رأسي الغطاء واستسلمت، من الواضح أنني لن أستطيع النوم، سأفتح هذا الفيسبوك ثانية … ربما سأكتب شيئاً …. لكن عجزاً أقام بين أناملي …. الكلّ حزين .. وأنا أيضاً حزينةٌ وتائهة وخائفةٌ  مما سيأتي … ووجدتني أعود وأبحث بين صور الشهيد “عبد القادر” عن خبر استشهاد “عبد الرحمن”، تأملت صورته من جديد …. الشهداء كثر والمعتقلون أكثر والمغيبون أكثر وأكثر، ماعاد أحد يعرف أحداً …  لكن الكلّ يعرف “عبد القادر” … نعم لذلك هم لفراقه محزونون، ولو عرفوا “عبد الرحمن” لحزنوا أيضاً، ولو عرفوا محمد وأحمد ومحمود لحزنوا عليهم كذلك …

لكن عدم معرفتنا بهم لايغير من الحقيقة شيئاً، فكلّ شهيدٍ هو في عيني أمّه “عبد القادر” … كلّ شهيدٍ هو في قلب محبوبته “عبد القادر”… كلهم لدى أصدقائهم “أنس” ….

هي ليست صدفة … هذا مايحدث اليوم بيننا…  لكنّ الحقّ واضحٌ وضوح الجملة التي ترنّ منذ الصباح في ذهني “كلنا ياريم عباد الله … الرحمن هو القادر” ..

نعم والله ….ولن تتم عبادتنا الحقة لله إن عبدناه باسمه القادر وتناسينا اسمه الرحمن … من اختار رِكاب القدرة ومن اختار رِكاب الرحمة، كلّهم سواء، وفقدان سائق مركبة الرحمة ليس أقل من فقدان سائق مركبة  القدرة …  قد تحب الناس القدرة وتهلل لها، لكنهم بالرحمة يحييون … فمركبةٌ واحدة لن تحمل كلّ هذه الحشود إلى برّ النصر، وسيبقى هناك من يقود الركب مادام هناك عباد القادر وعباد الرحمن ..

بسم الله الرحمن الرحيم: “وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ” … الله هو الرحمن وهو القادر وهو العزيز وهو الحكيم … اللهم ارحمنا بقدرتك رحمةً واسعة وتقبل شهداءنا وأعزّنا وارزقنا الحكمة

One Comment Add yours

  1. Fouaad alfaraj says:

    رائعة يا ريم
    ربي يحفظك انا بعتز لأنني كنت سبب لإعادة نشر هذه الكلمات وكأنها ماء يروي شيء في داخلنا اسمه ثورة

Tell me what you think, leave a Reply