نساء أثّرنَ في حياتي

يحتفل العالم اليوم بذكرى اليوم العالمي للمرأة ورغم أنني كتبت سابقاً في هذه المناسبة وأُجريت معي مقابلات صحفية إلا أنني وللمرة الأولى في حياتي أفكر بهذا اليوم بطريقةٍ مختلفة … للمرة الأولى يخطر لي أن أسأل نفسي هذا السؤال: من هنّ النساء اللواتي أثّرن في حياتي؟ من هنّ أولئك اللاتي ساهمنَ بتشكيلي وتشكيل شخصيتي وخبراتي بطريقةٍ تجعلني اليوم أنا على ما أنا عليه؟
وللمرة الأولى منذ أربعين سنة أشعر أن لديّ جوابٌ على سؤالٍ كهذا … يبدو أن الأربعين من العمر تجلب معها نظاراتٍ جديدةٍ تُرينا الدنيا و الحياة والناس من حولنا بأعين جديدة.
النساء اللاتي أثّرنَ في حياتي لسنّ خارقات، لسنَ نادرات، لسنَ أيقونات بأي شكلٍ من الأشكال، ولا يتوجب عليهن أن يكنّ كذلك حتى أحتفي بهنّ وبأثرهنّ، أخذتني هذه الحقيقة أربعين عاماً حتى أدركتها …. كنّ عاديات، لكنهن كنّ خاصاتٍ بالنسبة لي، أثرهنّ ساهم بصياغة كياني الإنساني وهذا يكفي بالنسبة لي لأحتفي بهنّ.
فإليكم هذه اللمحات من أثر هؤلاء النساء في حياتي، أهديها لهنّ بالدرجة الأولى، ومن ثم إلى كلّ امرأةٍ عاديةٍ على هذا الكوكب، مع بطاقة معايدةٍ مكتوبٍ عليها بخطٍ أنثوي بأحمر شفاهٍ قانٍ “لا داعي لوجود نساء خارقات، كلنا مؤثراتٌ وكلنا رائعات، و تكمن روعتنا وقدرتنا على التأثير في كوننا عاديات”

أمي:
أمي رزان أو “روزا” كما نناديها ويناديها المقربون، سيدةٌ عاشت لغيرها، ولا أقول هذا من باب الإطراء، وإن كان يجده أكثر الناس إطراءاً، لكنني لا أقوله هنا من باب الإطراء لأنني سأعترف أنني لطالما خلال سنيّ مراهقتي وما بعدها تمنيت لو أني أراها ولو لمرةٍ واحدة تصرخ، تغضب، تنتصر لنفسها، كنت أتمنى أن أرى منها مواقف “قوية،  وكان يلزمني العديد العديد من سنوات العمر ومن تجارب الحياة القاسية لأدرك أن ما كانت تفعله أمي دوماً هو “المواقف القوية”. أن تصمتَ حين تتألم وتُجرحَ يحتاج لقوةٍ كبيرة … ربما لا أشبه أمي في كثيرٍ من مناحي الشخصية إلا أنني أعرف الآن ما معنى أن توجد في حياة الإنسان أمٌ هادئةٌ متوازنةٌ لا تُرعد وتُزبد في وجه أعاصير الحياة، بل تؤمن بأن العاصفة ستمرّ وعلينا أن نحافظ على هدوئنا وابتسامتنا وأملنا قدر المستطاع إن كنا نريد تخفيف الخسائر. أمي متصالحةٌ مع نفسها، لا تطالب نفسها بأن تكون خارقةً أو “بيرفكت”، روزا تقبل نفسها بعيوبها ومزاياها وتسعد بما تستطيع تحقيقه. تواقةٌ هي دوماً لكلّ جديدٍ، وشرهةٌ للتعلم و للمعرفة، تجمع مع هذا التوق اللامنتهي رضاً لا منتهٍ أيضاً. مع أنني أعرف روزا منذ اللحظة الأولى لي في هذا الوجود فقد استغرقني الأمر أربعين عاماً لأحذو حذوها و أتصالح مع نفسي، وعلى الرغم أنه ما زال أمامي الكثير لأعمل عليه في هذا السياق، فإنني لا أعتقد أنني كنت من الممكن أن أصل إلى أي مكانٍ في رحلتي مع نفسي وتقبُلها لو لم يكن أمامي نموذج أمي. حين سألتني معلمة اليوغا منذ فترة “ريم من أين تأتين بكل هذه الليونة؟” أجبتها أني بلا شك قد ورثت عن أمي مرونتها الجسدية، لكنّي ما زلتُ أشتغل على نفسي حتى أكتسب منها مرونتها النفسية.
إلا أنّ هناك جانبٌ أشبه فيه أمي إلى حدٍ كبيرٍ جداً، كلتانا عاشقةٌ للقصص وعوالم الخيالات القصصية، وأعتقد جازمةً بأنني ورثت ولعي بالقصص عن أمي، (وأشكر الله لأنني ورثت إلى جانب هذا الوله القصصي من أمي، ولهاً آخر بالكتابة أخذته من أبي، ولهذا أنا قادرةٌ اليوم على أن أعبر عن نفسي بالكلمات) … بالعودة للقصص، أعلم دوماً أنني إن أردت أن آخذ بيد أحدٍ ما لندخل إحدى القصص ونضيع في عالمها وعالم شخصياتها وتفاصيل أحداثها، فليس لي إلا أمي …  إن أضاعنا أحدٌ في يومٍ ما فسيجدنا حتماً في زاويةٍ مع فنجان شايٍ عشبيٍ و رواية. ولأننا عاشقتان للحكايات فإن في داخل كلتينا طفلةٌ لا تكبر … كنت أظن فيما سبق أنّ الطفلة التي بداخلي ستكبر يوماً ما، إلا أنني بتّ مدركةً أن هذا لن يحصل، أتيقن من ذلك كلما لمحت تلك الطفلة البريئة اللعوب في داخل أمي، وأتيقن أنه مهما بلغ جسدينا من عمرٍ فيزيائيٍ سنبقى نضحك كطفلتين، ونحلم كطفلتين، وسنبقى نركض لاعبتين كصغيرتين حافيتي القدمين كلما وضعنا القدر على رمال شاطئٍ في مكانٍ ما.

جدتي:
جدتي من أمي، رجاء، رحمها الله، ربما يجد من يعرفني غرابةً بأن تكون هي السيدة الثانية التي أثّرت في حياتي، فأنا نفسي لم أكن لأدرك ذلك قبل أن أجلس أول البارحة مع نفسي و أطالبها بتسمية خمس نساءٍ ساهمن في صياغتي، وقد تفاجأت بأنني تمكنت من تسمية ست نساءٍ بدل الخمس، وتفاجأت بأن الثانية كانت جدتي. و لأوضح لماذا تفاجأت، ربما لأنني لم أكبر في حضن جدتي و على أحداث حكاياتها كما تكون الصورة النمطية عادةً للجدات. في حالتي كان الوضع معكوساً، من كان يُجلسنا في حضنه ويروي لنا الحكايات ويلعب معنا، كان جدي حسين وليست جدتي رجاء (رحم الله روحهما).
رجاء لم تؤثر فيّ كجدة، رجاء أثّرت فيّ كامرأة، وهناك ذكرى قويةٌ جداً في مخيلتي تلخص هذا الأثر. عندما كان عمري ربما ثلاثة عشر عاماً، في ذات ظهيرةٍ وعندما كنت في احدى زياراتي الربيعية أو الصيفية لبيت جدي في حلب، كنت أغسل يديي ربما بعد الطعام أو قبله لم أعد أذكر، فمرّت جدتي من ورائي والتقت نظراتنا في المرآة التي تعلو المغسلة فابتسمتُ لها، فقالت لي حينها ” بتعرفي يا ستي شو أحلى زينة بتتزين فيها الصبية؟” أجبت “شو؟” فقالت: “أن تكون لها ابتسامة لؤلؤية لا يملّ الذي أمامها من النظر إليها، سيريد من يكون مع سيدةٍ كهذه أن يجعلها دوماً تبتسم ليرى تلك اللآلئ في فمها”، ثم قالت لي بأنها ستريني بعد الطعام كيف تعلمت وهي شابةٌ أن تبيض أسنانها بالفحم لتحافظ على بريقها. ربما لهذا السبب كنت وما زلت أعتني بأسناني و “بابتسامتي” أشد الاعتناء! … كانت هذه أول نصيحةٍ أنثويةٍ أسمعها في حياتي (و ربما الأخيرة أيضاً) فكما قلت سابقاً أمي سيدة عاشت وتعيش لغيرها، لم تكن العناية بالنفس والمظهر يوماً من أولوياتها ولم توجهنا وأختي في هذا الاتجاه، في بيتنا كان التركيز على التحصيل العلمي، لم يهتم أحدٌ يوماً كيف يبدو مظهري أو ما هو شكلي، بل كان كل الاهتمام ينصبّ على ما هي علاماتي و ما هو ترتيبي المدرسي. ولهذا كبرتُ و لديّ اشكالات مع هويتي الأنثوية (سأتحدث عن هذا بالتفصيل لاحقاً ربما)، لكنني كلما كنت أريد أن أتصالح مع أنوثتي دون أن أساوم على قوة شخصيتي، كنت أتخيل جدتي، مَن كان الأحفاد والحفيدات يمزحون أحيانا بتسميتها “الجدة المراهقة” في إشارةٍ إلى إعجابها بنفسها وثقتها بجاذبيتها التي لا تشيخ مهما تقدم بها العمر. رجاء كانت جميلةً جداً حتى في السبعينات من عمرها، وجمالها لم يكن فقط جمال ملامحٍ لم يستطع التقدم في العمر أن ينال منها، بل كان جمال سيدةٍ تعرف كيف تثق بجمالها، جمال سيدةٍ لم تدع السنين لتنال من تلك الثقة أو تهزها. رجاء تزوجت صغيرة جداً، لكنها درست ودخلت الجامعة وتخرجت من الجامعة رغم إنجابها لخمسة أولاد، وعملت بعدها مدرّسةً في المعهد المتوسط التجاري بدمشق. رجاء كانت ربما من أوائل السيدات اللاتي قُدنَ سيارةَ في دمشق، وأذكر من أقدم ذكرياتي أنني كنت أنظر بفخرٍ إلى سلحفاة جدتي البيضاء تحت بيتهم في القصاع، وأصغي إلى صوت محركها حين كانت جدتي تجلس وراء المقود وأفكر أنني سأكون مثلها حين أكبر. أمي و خالاتي لم يكنّ مثل جدتي، لم يعملنَ ولم يقدنَ سيارات، وكنتُ دوماً أفكر أنني سآخذ من رجاء ما لم تأخذه عنها بناتها، وأعتقد أني فعلت، أخذتُ عنها قوة شخصيتها وتصميمها … ومازلت أدرّبُ وأعلّم نفسي لتأخذ منها ثقتها وفخرها بأنوثتها اللامحدود.

خالة أمي:

كان لأمي خالة تكبر جدتي رجاء، تدعى صباحت، ولأنّ لكلٍ من اسمه نصيبٌ كما يقولون، كانت صباحت أكثر شخصٍ صباحيٍ عرفته في حياتي كلها، وأنا على العكس تماماً، شخصٌ ليليٌ إلى أقصى الحدود، لذلك كانت تدهشني الخالة صباح. كانت أكبر أخواتها لكنها لم تتزوج ولذلك كانت أمّاً و جدّةً للجميع، إلى درجةِ أنني كبرتُ وفي اعتقادي أنّ في كلّ عائلةٍ خالةٌ لا تتزوج لتكون أمّاً للجميع، مُحِبّةً، عطوفاً، متفانيةً ولديها دوماً متسعٌ للكل.
تذكرنا أنا وأخي عمر في الشهر الماضي خلال زيارتنا لقريةٍ انكليزيةٍ هاربةٍ من الحكايات كيف كانت أمي تصحبنا بعد الظهر في بعض الأيام ونحن صغار لنزور الخالة صباح، كنتُ وعمر نمر من أمام أحد الشبابيك المنخفضة لبيوت تلك القرية الانكليزية الأثرية، وكان الشّباك يطلّ على مطبخٍ عتيقٍ بدا لنا كمطبخ خالتو صباح عند العصر، تنعكس أشعة الشمس عن أطراف المفارش المطرّزة التي تعلو رفوف الصحون العتيقة، وعن رخام المجلى الأبيض بنظافةٍ عجيبة، وهناك فوق الموقد دوماً طبخةٌ ما، وعلى المائدة المجاورة صحن أكلةٍ ما بالزيت ينتظر أن يبرد احتفالاً بأي قادمٍ محتمل. حين كبرتُ قليلاً وذهبت إلى الجامعة صرت أمضي بعض الأيام عندها لوحدي بحجّة الدراسة، ربما لم تفدني تلك الأيام دراسياً، مع محاولات خالتي صباح لخلق نظامٍ دراسي لي دقيقٍ كساعةٍ سويسرية، إلا أنها أثّرت بي من حيث لا تدري، حين كانت توقظني باكراً لنذهب لسوق الخضار قبل أن ترتفع الشمس في السماء حتى نحصل كما كانت تقول على أكثر الخضار نضارة، ونعود لنتناول سويةً فطورنا الذي كان يبدو لي ألذ طعامٍ في الوجود، للزيتون واللبنة والنعنع والجبنة البيضاء وشرائح البندورة والخيار، وحتى لكؤوس الشاي عندها طعمٌ آخر. ثم كانت تبدأ فترتي الدراسية الأولى التي كانت تنتهي حين كانت تناديني على الغداء، كان لكلّ ما كانت تصنع يداها طعمةٌ عجائبيةٌ ولم أدرك حتى كبرتُ أن السرّ وراء تلك الطعمة لم يكن بأنها طباخة نادرة، بل السرّ الحقيقي يكمن بأنها كانت تحضر طعامها مع فائضٍ من المحبة التي كانت تصل لقلب من يأكل قبل أن يصل الطعام حتى إلى معدته. منها تعلمتُ أن أحضّر الطعام دوماً بحبٍ حتى لو كان بيضاً مقلياً، واليوم حين يقول لي أصدقاء سعد وزيد بأنّ طعامي لذيذٌ جداً أقول لهم لأنه محضرٌ بحب.
كان يستمر البرنامج هكذا، دراسةٌ واستراحاتٌ تحددها هي لي، تتراوح بين وقت الاستحمام و وقت الشاي، و وقت مسلسل المساء إلى جانبها بعد العشاء، كلّه مدروسٌ، وكلّه بموعده الدقيق. خالتي صباح كانت تقول لي “الهوانم ما بيتفتلوا بأواعي النوم، عيب!” يجب أن نرتدي “قيافتنا” قبل خروجنا من غرف نومنا في الصباح، وعند الخالة صباح عرفت خلطات زيت اللوز و الليمون لتطرية اليدين، و لف الشعر بعد الاستحمام بقمطات الحرير حتى يبقى حريرياً عندما يجف … مازالت صباحت وبيتها كالأسطورة في مخيلتي، كيف كان كلّ شئٍ نظيفاً ومرتباً ومكوياً كأنه هاربٌ من متحف؟ ومع ذلك كان دافئاً وحميمياً وحنوناً كأنه حضن أمّ؟ لم أعرف ولم أستطع حتى يومي هذا أن أرى لها أو لبيتها شبيهاً … كانوا يقولون لنا ونحن صغار أن صباحت التركية الأصل كانت قد نشأت مع أبويها نشأة باشاوات أتراك ولذلك كانت على هذا الشكل من الإتقان والرتابة وتقديس العائلة … ربما … لكن لدى صباحت لا شك ماهو أكبر بكثير من نشأةٍ تركية … لديها روح الأنثى الحقيقية الصافية، المعطائة كالطبيعة الأم، أو ما يسمونه بالانكليزية Mother nature، لأنني كلما سمعت هذا التعبير أتذكر صباحت … رحمها الله.

رفيقة أيام الصبا … أو بالأحرى “أيام الجنون” :

لست من نوع الفتيات الكثيرات الصديقات، بسبب نشأتي غير البناتية التي أشرت لها أعلاه، لم يكن لي يوماً شلّة من الصديقات ولا صاحبات ولا مخططات ولا مشاريع ولا أي شئ مما يكون في حياة الفتيات المراهقات أو العشرينيات … لكن كانت لديّ من كنت أسميها “رفيقة الجنان”، لينة كان اسم صديقتي، وجارتي و زميلتي في الجامعة … كان الجميع يعرفنا، يعرف الثنائي العجيب “لينة وريم”، في الجامعة وفي الحارة، كنا مختلفتين في كلّ شئ لدرجةٍ ملفتةٍ للنظر، مختلفتين بالأحجام، بالأصوات، بالنشأة، بالطباع، بالشخصية، وهذا ما كان يميزنا ويقوي رابطتنا ويجعل في صداقتنا دوماً ما هو جديد يبعد عنها الملل. كنا نمضي ساعاتِ يومنا الأربع وعشرين سويةً (دون مبالغة) اذ كنا نقطن في نفس البناء وبالتالي كانت إحدانا دوماً عند الأخرى. كانت لينة فرداً من عائلتي يعرفها كلّ الأقرباء من القاصي والداني، وكذلك كنت فرداً من عائلتها، أعرفُ الجميع و يعرفونني. قدمنا البكالوريا سويةً، طبعا درسنا سويةً أو هكذا كنّا ندّعي، ودون الدخول في التفاصيل، حصلنا على نفس المجموع بالعلامة، و دخلنا إلى كلية العلوم سويةً. حتى عندما قررنا أن نعيد السّنة الثانية وأن لا نترفع إلى السّنة الثالثة، فعلنا ذلك سويةً (نعم كان لدينا الكثير من الحركات المجنونة وهذه ربما كانت أقلها) …. تمشينا في شوارع الشام سويةً، ضحكنا سويةً وبكينا سويةً، سرقنا مفاتيح السيارة ليلاً وعلّمنا أنفسنا القيادة قبل أن نبلغ الثامنة عشر من العمر سويةً، وقدّمنا فحص القيادة في يوم عيد ميلادي الثامن عشر وحصلنا على الشهادات سويةً … حلمنا سويةً وخططنا سويةً، نجحنا أحياناً سويةً وفشلنا أحياناً أخرى سويةً أيضاً … تقاتلنا، نعم كان قتالنا عنيفاً لكن خصوماتنا كانت تنتهي سريعاً دوماً. كنا مرتبطتين و قريبتين من بعضنا لدرجة أن زملاءنا في الجامعة كانوا يعتقدون أننا نتكلم مع بعض بالنظرات فقط، وهذا كان صحيحاً إلى حدٍ كبير، لم تكن إحدانا بحاجةٍ للكلمات لتعرف ما يدور في خَلَدِ الأخرى. كنّا صاحبتي أطول زلغوطة وأعلى تصفيرة. كنّا ملتزمتين حدّ التزمّت ربما، لكننا كنّا مشاغبتين إلى حدّ أن اساتذتنا في الجامعة كانوا يفصلون بيننا في جلسات العملي، لينة وريم، لوريل وهاردي، أو شاركي وجورج … مهما كان الاسم المُطلَقُ على ثنائينا، كنّا فخورتين به، كنّا نضحك على كلّ شئ … كنا نأكل كثيراً ونسهر كثيراً و نحلم كثيراً، مع لينة اكتشفت المغامرة التي بداخلي، ومعها اكتشفت أيضاً أن لا حدود لجنوني، و قد ترك لي كلّ ذلك زوادةً من الذكريات لا تنتهي، تجعل قلبي يرقص فرحاً كلما مرّ بي اسم لينة التي صار يفصلني عنها بحارٌ ومحيطاتٌ وعشرات السنوات … لكنها ستبقى إلى الأبد في وجداني أيقونةً لصداقةٍ صادقةٍ بريئةٍ خاليةٍ من خبث الدنيا وسواد نفوس البشر وأمراضها.

الصديقة التي خانتني:

نعم، ليست كلّ النساء اللاتي أثّرن في حياتي صاحباتِ أثرٍ وردي، لن أقول أن منهن من كنّ صاحبات أثرٍ سلبي، لأنه لا وجود برأيي لما يدعى أثراً سلبياً، فحتى أقسى التجارب تساهم بصياغة شخصياتنا وكياننا، ونحن مَن نقرر هل نتركها تدمرنا أم تقوينا.
صديقتي التي خانتني هذه، والتي لن أذكر اسمها، كانت أخر صديقةٍ في حياتي بالشكل التقليدي للصداقة الأنثوية. وما أقصده بذلك هو الصورة النمطية المعروفة عن صداقات الإناث التي يكن فيها مقرباتٍ كثيراً من بعضهن البعض، يعرفنَ كلّ شئٍ عن بعضهنّ البعض، ويلتصقن ببعض كما تلتصق البصلة بقشرتها. كما سبق وأشرت أن نشأتي غير البناتية كانت قد حدّت كثيراً من تواجد هذا النوع من الصداقات الأنثوية في حياتي أساساً، لذلك بعد أن تزوجتُ وباعدت الدنيا والحياة الجديدة بيني وبين لينة بقيتُ لسنتين أو ثلاثة بدون صديقةٍ مقربة. تعرفتُ على صديقاتٍ أحببتهنّ وأحببت صحبتهن، لكنّي لم أُدخل أيّةٍ منهنّ قريباً جداً داخل حياتي، لم أُعط لأيّةٍ منهنّ مفاتيح قلبي … إلى أن تعرفتُ على صديقتي المقربة الأخيرة … أعرف أنني ربما أبدو الآن رومانسيةً، لكنّها الحقيقة، فأنا لا أتقن أنصاف الأمور، وحين أحبّ فإنني أحب بكليتي، وأعطي كلّ ما لدي لمن أحب … متطرفةٌ أنا ربما في هذا السياق، لكنني هكذا ولا أظن أنني سأتغير، أدركتُ ذلك بعد هذا العمر، وبعد الكثير من الخيبات، لكنني أدركت أيضاً أنه لا يتوجب عليّ أن أتغير لأنني لن أتغير مهما حاولت، وأدركتُ أنني سأتعرض للخيبات العاطفية على جميع الأصعدة الواحدة تلو الأخرى، لكنّ ما يهم هو كيف سأتعامل مع هذه الخيبات، ما يهمّ هو أنني يمكن أن أبقى كما أنا دون أن أَدَعَ الخيانة تكسرني.
كان عليّ أن أتلقى ضربةَ خيانةِ الصديقة حتى أتحمل بعد سنواتٍ منها خيانة الحبيب التي كانت مخبأةً في جعبة القدر. أدركتُ مؤخراً أنه في قصتي كان عليّ أن أذوق خيانة المرأة حتى لا تكسرني خيانة الرجل لاحقاً. لكن هذا الدرس كلفني الكثير، كلفني ثقتي بنفسي وبالناس التي تحطمت لفترةٍ ليست بالقليلة، قبل أن أتعلم كيف يمكنني ترميمها. صديقتي التي خانتني كنت قد وثقت بها بلا حدود، أحببتها رغم عيوبها بلا حدود وقبلتها كما هي، دون أن أتخيل أن تلك العيوب التي لم تقلقني رغم تنبيه بعض الناس لي (أحدهم أستاذي الذي كنت أثق بنظرته بالبشر إلا أنني اخترت عدم تصديقه حين قال لي انتبهي إنّ صديقتك هذه ليست من تظنين) كانت في الحقيقة أمراضاً وليست عيوباً، أمراضاً ستفرخ في حياتي جراثيماً وفيروساتٍ سأعاني كثيراً لأتخلص منها فيما بعد. كنت مستعدةً دوماًً لأؤثر تلك الصديقة على نفسي، وكنت أفضي إليها بخلجات روحي، لكنّها لم تكن (كما قال أستاذي) كما ظننت. لم تحبّ الخير لي، وكان عليها يوماً ما أن تحطمني حتى لا أحصل على ما تريد هي الحصول عليه، كان عليها أن تحطمني ليس فقط على الصعيد العملي بل وحتى على الصعيد العائلي، صديقتي تلك التي أدخلتها بيتي وجعلتها مجدداً فرداً من عائلتي ضربتني في عقر داري و في منتصف قلبي، وشقّت في علاقاتي العائلية خندقاً بالافتراء والكذب استغرق ردمه سنواتٍ وما يزال، بالحقد الذي لم ولن أفهم له سبباً … لكنني توقفتُ عن الأسئلة منذ زمنٍ طويل. بعد تلك الخيانة الأنثوية انغلقتُ على نفسي المنغلقة ابتداءً أكثر وأكثر، ولم تعد لديّ أيّةُ رغبةٍ بإنشاء أيّة صداقةٍ أنثوية، أصبح الشّك سيد الموقف بيني وبين النساء لسنوات، لم أعاديهنّ، لكنّ الخوف والتوجّس كان يحكم شكل علاقاتي باستمرارٍ، إلى أن جاءتْ مَنْ بدأتْ تُغيّر هذا التوجه إلى حدٍ ما، تلك ستكون المرأة السادسة على قائمتي لليوم. لكن قبل أن أنتقل إليها وأغلق ملف صديقتي التي خانتني دعوني أختم بمقولةٍ لا نحبها نحن معاشر النساء كثيراً، وننزعج حين يقولون أن “أكبر عدوٍ للمرأة هو المرأة”، لا أتفق مع هذه المقولة بالمطلق ولا أحبّذها، لكنني أعلم من تجربتي أنها تحمل بعضاً من حقيقة، فليست كلّ النساء حليفاتنا، لا نستطيع الثقة بكل امرأةٍ فقط لأنها تنتمي لبنات جنسنا، فمنهنّ من قد يرغبنَ ومن قد يخططنَ ومن قد ينجحنَ بإيذائنا، لا لسببٍ واضحٍ، إلا لتنافسٍ أنثوي … علمتني المرأة الخامسة على قائمتي أن ليست كلّ امرأة حليفةً للمرأة كما أن ليس كل رجلٍ عدواً للمرأة.

صديقة النضج:
بدايةً يجب أن أوضح أنني لا ألمح ولا أصرح إلى أنني أصبحت إنسانةً ناضجة، لكنني أعتقد أنه قد أصبح لديّ من السنوات والتجارب والخبرات على هذه الكرة الأرضية ما قد خولني أخيراً كي أخطو أولى خطواتي نحو مرحلة النضج، والمرأة السادسة والأخيرة على قائمتي اليوم هي النوع من النساء اللاتي نجدهنّ ونرافقهنّ حين نبدأ خطواتنا نحو النضوج الإنساني. سماء اسمها، ومجدداً لأن لكلٍ من اسمه نصيب، فهي تذكرني إلى حدٍ كبيرٍ بالسماء، بالانشراح والسعة. كنت أعرف سماء منذ زمنٍ طويلٍ جداً، في الحقيقة كان أهالينا يعرفون بعضهم ربما حتى قبل أن نولد. التقيت بسماء مجدداً حين تزوجت، فقد كان زوجانا السابقان حينها صديقين، ثم باعدت الحياة والأسفار بيننا، إلا أن نصيبنا من الخيبات والانكسارات كان متشابهاً إلى حدٍ كبير رغم اختلاف التفاصيل. سماء مثلي تحمل الجنسية البريطانية ومثلي حين سدّت البلاد والعباد في وجهها الأبواب لم يبقَ أمامها إلا بريطانيا، هنا حطّت بنا الرحال وهنا التقينا مجدداً. حين انتقلت سماء إلى بريطانيا كنت مازلت أحاول الخروج من مشاكل الطلاق التي كانت لا تزال حديثة، كما كنت أحاول القيام من وقعة خيانة الصديقة التي كانت أحدث، لم أكن مستعدةً إطلاقاً لإنشاء علاقاتٍ جديدةٍ من أيّ نوع، كنت خائفةً ومجروحةً ولم أكن مستعدةً لفتح قلبي لأيٍ كان، لكن سماء كانت دوماً موجودة، رغم نوبات الاكتئاب والانسحاب التي كانت ولا زالت تصيبني من وقتٍ إلى آخر، بقيت سماء موجودةً، مهتمةً دوماً وعلى استعدادٍ لتستثمر في الصداقة بيننا. امرأةٌ ذات روحٍ ايجابيةٍ لا تعترف بالهزيمة، وذات شخصيةٍ قوية لا تيأس، بدأت سماء في بريطانيا من الصفر، هي اليوم سيدة أعمال، أسست بنفسها ولوحدها مركزها الخاص بإعادة تأهيل الدماغ، وقطعت بجدّها وصبرها أشواطاً كبيرة. أحبّ فيها أحلامها وأحبّ فيها أكثر إصرارها على تحقيق تلك الأحلام. بيننا الكثير من نقاط التقارب والتشابه الفكري والمعرفي والخبراتي والنفسي ما يمكننا أن نتفاهم جيداً، وبيننا من نقاط الاختلاف ما تعيه كلتانا بشكلٍ يسمح لنا باستخدامها لصالحنا لا ضدنا، بشكلٍ تغني فيه كلٌّ منا الأخرى. لا وجود لعواطف جارفةٍ بيننا، ولا علاقتنا هي من نمط التصاق القشرة بالبصلة … أنا و سماء اليوم سيدتان تخطوان سويةً أولى خطواتهما نحو مرحلة النضج و تسمتعان بكل خطوة تقومان بها في هذا الاتجاه، رغم أنها لا تقطن في مدينتي ولا نتمكن من رؤية بعضنا إلا مرةً كلّ عدة شهور، إلا أنه لدينا من الاهتمامات المشتركة ما يضمن دوماً اجتماعنا حول فنجان قهوة أو على مقاعد سينما أو في أروقة متحف أو أمام واجهات محلات الألبسة والعطور، ولدينا من الأحاديث المشتركة ما يملأ محادثات الهاتف حين لا يكون إلى اللقاء من سبيل، فمن حديث مخططاتنا وأعمالنا، إلى حديث أولادنا، إلى حديث الرجال الذين لم تيأس كلتانا من أننا سنجد لا بدّ يوماً من يستحق منهم حبنا و قلبنا، لدينا دوماً ما نقوله، قد تمر أسابيع دون أن نتهاتف، وحين نفعل فإن لدينا دوماً ما نحكيه لبعض، والأهم من هذا لدينا دوماً ما نحلم به وما نسعى لتحقيقه. تستعيد سماء رويداً رويداً ثقتي بالصداقات الأنثوية، لقد تعرفت معها على نوعٍ جديدٍ بالنسبة لي من الصداقات، نوعٍ جديدٍ من العلاقات الناضجة التي تكون هادئة، متوازنة، تجد فيها الآخر حين تحتاجه لكنه لا يخنقك بحضوره، ويحترم مساحتك الخاصة. صداقةٌ يستثمر فيها كلٌّ على قدر استطاعته دون أن يضطر للإفلاس نفسياً أو عاطفياً. لا آمالٌ خيالية ولا توقعاتٌ غير واقعية تلفّ هذا النوع من الصداقات، ولا خيباتٌ كبيرة تهددها، صداقةٌ كهذه تكون مريحةً ويكون وجودها في حياتنا إثراءاً لها، نستثمر فيها بارتياح، وبأملِ سيداتٍ يخطونَ نحو النضج بثقة.

6 Comments Add yours

  1. Omar Bilal says:

    كلام جميل
    رحلة ممتعة قامت بها مخيلتي في عوالم هذه الشخصيات
    تصلح هذه التدوينة لأن تكون سيناريو جميل لمسلسل تلفزيوني رائع ومفيد

  2. Reem Assil says:

    شكراً لك عمر … فكرة تحويل التدوينة لمسلسل لم تخطر في بالي 🙂

  3. Omar Bilal says:

    كل الشكر لك ولكلماتك الجميلة، أسعدتني تلك الرحلة في عوالم تلك الشخصيات المختلفة
    لا أخفي ألمي بتلك الشخصية الشريرة وخاصةً أني الآن أعاني من شخصية مشابهة وإن اختلفت التفاصيل وأشعر بكم الالم الذي شعرت به وكانت لتجربتك مع حالة كهذه خير دليل لي على تخطي التجربة المريرة جداً التي أعيشها حالياً من خيانة شخص عرفته لعشر سنوات

    إبتسمت قليلاً عندما وصلت الى فقرة التصفير ههههه لم أتمكن من تنمية موهبتي في التصفير رغم محاولاتي المتكررة،

  4. Faten Gagaa says:

    الله ما أجمل ما قرأت

    1. Reem Assil says:

      شكراً لك فاتن

  5. Rahaf says:

    يالله يا ريم أديه أنت متصالحة مع حالك وأديه لازم كلنا كإناث نتعلم نعترف بأي صديقة أو أخت أو حدا قريب علينا ويكون عنا الكلمات لنقدر نخلد هادا الإعتراف ❤️❤️❤️❤️ لك من كل الإحترام

Tell me what you think, leave a Reply