حياة للإيجار

حياة للإيجار
ليس لي بيتٌ، وليس لي وطن … لم أستمر كفايةً في موقع واحدٍ ليغدوَ لي بيتاً، عندما بدأتُ أفتح عينيّ على الدنيا كنا نعيش في منزل صغيرٍ في الحلبوني، كان بيتاً لجدي وبين جدرانه عششت ذكريات سنيّ شباب أعمامي … هذا أول منزل أذكره في ذاكرتي الواعية كبيتٍ لي، طبعا سبقه العديد من المنازل التي لا أذكر عنها سوى خيالات بين بريطانيا ودمشق، بيت الحلبوني هذا بحلّته الجديدة كان دافئاً، مزدحماً دوماً، وكنت فخورةً به بقلب طفلةٍ لا تعي أن لوالديها أحلاماً أكبر من هذا المنزل الصغير في الحي العتيق …

ماهي إلا سنواتٌ قليلة جداً حتى حقق الوالدين حلمهما وانتقلنا …. في ليلةٍ مثلجة، أو هكذا هُيئ لذاكرتي، تركنا الحي الضيق العتيق وقاد والدي سيارته على طريقٍ واسع، وطويل … جداً طويل … إلى منطقة كررتُ اسمها قبل النوم في داخلي حتى لا أخطئه في الغد عند ركوب باص المدرسة في آخر الدوام فأضيع … إلى المزة.

في المزة الأبنية عالية، أعلى من خيالات طفلةٍ في التاسعة أو العاشرة من العمر ماعدت أذكر على وجه التحقيق، كان بيتنا الجديد في الطابق العاشر، تتربع شرفته الأمامية على بساطٍ دمشقي يمتد مدّ النظر، يترصع ليلاً بأنوار المآذن الخضراء، وتطل شرفته الخلفية على حواكير الصبارة اللامنتهية، حواكير ما كان يُنادى عليه في ليالي الصيف “مزاوية ياحلوة” قبل أن تجرف يد الغدر تلك الشجيرات … كنت أغبطها لتلك الشجيرات رغم كل الأشواك التي تحملها، لأنها بقيت في ذات المكان لمئات السنين … عاشت هناك، وماتت هناك …

سرقتني المزاوية الحلوة من تدوينتي فسرحت معها للحظات … وها هو المؤشر يومض مذكراً إياي، كان لديكِ ما ستقوليه عن بيتك الثاني … نعم سأعود لبيتي الثاني …

لفترةٍ من الزمن كنت أنظر من النوافذ الشاهقة الارتفاع بحذر، لكن ماهي إلا برهةٌ من زمان حتى أدمنت العلو واتساع الأفق … في بيتي الثاني هذا كبرت، تكونت شخصيتي، حلمت، قرأت، كتبت، رسمت، سهرت… وسهرت… سهرت لوحدي بصحبة كتابٍ، وراديو، ودمشق أمامي كبساط الريح السحري… سهرت فما مللت السهر ولا ملّني… في بيتي الثاني لم أدمن فقط العلو واتساع الأفق والسهر… بل أدمنت أيضاً الأحلام … أحلاماً شاهقةً بارتفاع قاسيون، أحلاماً بأنني سألتقي يوماً بذاك الذي لطالما عشقته ونادمته في سهراتي حين كنت أتفحص أضواء البيوت الساهرة في أرجاء دمشق الأربعة الممتدة أمامي، ترى في أيّها أنت؟ … ترى ماذا تفعل؟ … تراك تحب السهر مثلي؟ أتقرأ مثلي أشعار الشنفرى؟ … تراه شَعرُكَ طويلٌ كثٌ كشعره، تراها قامتك شامخةٌ كقامته؟ …. حين سألتقيك سأصطحبك إلى بيتي، وسأسهر معك على تلك الشرفة ننادم الشام حتى الصباح … في بيتي هذا سيكبر عشقنا ومن بيتي هذا سأخرج عروساً، وإليه سأعود أمّاً، لكن مهلاً، لا تتعجل، فمن هنا سأذهب لجامعتي أولاً، ومن هنا سأبني لنفسي مستقبلاً يرفع رأسي ورأسك ورأس أولادنا … لكن الحياة كانت على عجلةٍ من أمرها، وأحلام الوالدين كانت أكبر من أحلامي، ومجدداً كان الانتقال …

في هذه المرة كنت في التاسعة عشر من العمر، لم أكن كبيرةً كفاية لتغيير مسرى الأمور، ولا صغيرةً كفاية لقبولها كما هي … كانت لي أحلامي، كانت لي طقوسي، كان لي على تلك الشرفة عمراً بطوله فبأي حقٍ سأعطيه لساكنٍ جديد وأنتقل لأسكن أنا في بيتٍ جديد؟ … بأي حقٍ سأترك ما دعوته بيتي لأذهب لبيت جديد؟ … لكنّي ذهبت … لبيتٍ سأدعوه لاحقاً “بيتي الثالث” …

انكفأت على نفسي لفترةٍ ليست بالقليلة، أعلنت على نفسي العصيان وصرّحت ولمّحت بأني لا أحب هذا البيت، رائحة الدهان تسبب لي الحساسية… لون الستائر يزعجني ويستفزني، لذلك عليي أن أخرج… وكنت أخرج وفي الحقيقة كنت أهرب … إلى هناك … إلى بيتي، لم أتمكن بالطبع من دخوله، لكن صديقتي المقربة كانت تقطن في ذات البناء وكان يكفيني أن أكون قريبة منه، أسلّم على شرفتي من بعيدٍ كلّ يوم، وأسلّم على العمر الذي أودعته هناك بين قضبانها البرونزية … ما زلت أرى تلك الشرفة في مناماتي حتى اليوم …

حاولت، كان لي قلبُ شابّة يضج بالأمل بمستقبلٍ نضر، مستقبلٍ يعبق كنارنج دمشقي أوائل الربيع، ذاك القلب الذي ما كان يعرف الاستسلام ولديه دوماً متسعٌ لبداياتٍ جديدة أرادني أن أحاول، فحاولت أن أتصالح مع البيت الجديد، استغرقتني محاولة الصلح وقتاً لكنني نجحت في النهاية، وبدأت أحبه … بدأت أشاركه سهراتي، لم تكن شرفته عالية ولا ذات اطلالة كسابقتها، إلا أنني بدأت أحبها … يعربش الياسمين على قضبانها الحديدية المشغّلة المنخفضة الارتفاع، ويطير قبالتها الحمام مع كل طلوع شمسٍ دائراً في الأفق، مصطحبني معه في جولةٍ سماوية، قبل أن يعيدني إلى ماصرت أدعوه بيني وبين نفسي “معتكفي” …

بيتي الثالث هذا جميلٌ كأغنية عذبة، في كلّ زاوية من زواياه الكثيرة حكايةٌ طرّزها أبي وأمي بعناية، فها قد حطا رحالهما بعد طول تنقل فيه معلنين انتهاء رحلة البحث عن بيت الأحلام … بيتي الثالث هذا كان بامتياز “بيت العائلة”، بيتاً يعد باستقرار طويل الأمد ويتعهد بحفظ الذكريات والأحلام …

غادرت بيتي الثالث هذا ذات مساءٍ بين دموع أبي وقبلات جدي، مرتديةً فستاناً أبيضاً وغير عارفةٍ بأن ما يخبئه القدر لي لم يكن بجمال ثوبي ولا بنصاعة لونه … غادرته غير عارفةٍ بأنني بعد اليوم لن يكون لي بيت.

بعد ذاك المساء لم أستطع أن أعقد اتفاقية صلحٍ مع أي منزل … أو لأكن أكثر صدقاً، لم أستطع أن أعقد اتفاقية عشقٍ مع أي منزل، ولم أمنح أية مساحة بعدها مسمى “بيتي” …فليست كل المنازل مؤهلةً لتكون بيتاً، وحين لا يكون لك بيت، لا يكون لك حياة …. فمنذ ذلك الوقت وأنا أحيا حياة للإيجار …

تعددت المحطات، وتعددت الأسفار… تعددت الخيبات، وتعددت الآلام… صار حزم الحقائب عادةً، والخذلان روتيناً… ومن مساحةٍ لأخرى، من مدينةٍ لأخرى، من بلدٍ لآخر، و من قلبٍ لآخر … ماعاد السكن موطناً للسكنى، وماعاد للأحلام عنوانٌ تصل إليه رسائلها …

دعني أعتذر أيها العالم، ليس لي بيتٌ ولست عاشقة … مضى وقتٌ طويل مذ كنت أعشق … أنا لا أقول هذا لأكسر قلبك أيها العالم ولا أدري إن كنت تأبه أساساً… لكنها فكرة عبرت ذهني… مجرد فكرة…
ماذا لو كانت حياتي كسكني للإيجار… منذ متى وهي كذلك ياترى؟  منذ متى لم أعد أمتلكها؟  طال عليي الأمد حتى ماعدت أدري.. وما عدت أذكر…

ماذا لو لم أتعلم أن أستثمر وأشتري حياتي وأتملكها؟

لا داعي للبحث عن جواب، فما أحياه هو الجواب … فأنا لن أستحق أكثر مما ترمي به الحياة في طريقي من خيبات … لأن كل ما لدي ليس لي حقيقةً … كل ما لدي هو حياةٌ للإيجار… كل ما لدي هو عمرٌ بأمانٍ كاذبٍ برسم دفع الأجرة وشهادة حسن السلوك … عمرٌ لا مساحة فيه للأحلام … فالأحلام لاتقطن حياة للإيجار

كان هناك زمان، كانت تساكنني فيه الأحلام، نسهر سوياً، ننام سوياً … نصحو سوياً ونحتسي شاي الصباح سوياً …

كان هناك زمان كانت تبادلني فيه أحلامي أحاديث المساء، مساءاتٍ طويلةٍ و ثرثراتٍ على مخدّةٍ أو فوق غيمة، عن بيتٍ سيكون لنا بشرفةٍ على بحرٍ لازوردي ومآذن بيضاء عاجية، نزينه بلوحاتٍ دمشقية وخطٍ عربي ، وكرسيٍ خشبي عتيق في زاوية معتكفي … ثرثراتٍ عن أسفارٍ طويلة لأماكن بعيدة و وجوه كثيرة، بيضاء وسمراء وصفراء وحمراء وسوداء …

لا تسألوني عن أحلامي فقد هجرتني منذ زمن طويل … مذ أن عرضتُ حياتي للإيجار ولم يتبقَ لي فيها شئٌ أمتلكه …

مذ أصبحتُ أحيا حياتي بالأجرة وأنتظر من المُلّاك شهادات حسن السلوك … شهاداتٍ تؤهلني لحيازة لقب المستأجر المثالي، وتخوّلني تمديد عقد الحياة دون أن يتم سحبه منّي وإعطاؤه لغيري لأبدأ رحلة البحث عن عقد ايجار جديد …

إنها فكرة … مجرد فكرة عبرت ذهني … أتراها فعلا فكرةً أم حقيقة …

هي الحقيقة … طالما أن حياتي للإيجار فلن تعود لي أحلامي … طالما أني أرتدي قلبي كدرعٍ أشهره في وجه كلّ ما يمرّ بي وأرفض أن أنزله، أرفض أن أنهي معاركه غير ذات الجدوى، تلك المعارك الدائرة على قارعة طرقات لمساكن بالأجرة، طالما هذه هي الحياة التي أحيا فلن تعود لي أحلامي… و إلى أن أخبئ هذا القلب بعيداً … بعيداً في بيتٍ بحياةٍ تعود سندات ملكيتها لي، فلن تعود لي أحلامي … لأن الأحلام لاتسكن درعاً يقطر دمعاً و دَمَاً في حياةٍ للإيجار …

نعم أدري … هي الحقيقة … حقيقة أنْ هجرتني أحلامي مذ عقدْتُ بيني وبين الخوف عقد مساكنةٍ طويل الأمد في حياةٍ معروضةٍ للإيجار … فالأحلام لا تسكن عنواناً يقطنه الخوف …

هجرتني أحلامي منذ أن أصبحت أخاف … أخاف من الفشل … أخاف من الجرح … أخاف من الألم … أخاف من الخيانة … أخاف من الغدر … أخاف حدّ العزوف حتى عن المحاولة… فكيف لي وأنا أخاف أن أدّعي أصلاً بأنني أحيا …

حياةٌ للإيجار بلا أحلام، هي مماتٌ سابقٌ للأوان … أفما آن لي أن أستثمر؟… أما آن لي أن أشتري حياتي وأسجّل عقد ملكيتها باسمي؟… اسمي وحدي… لتعود لي أحلامي… لنسهرَ سويةً ما دام في العمر بقية.

بإلهام من أغنية  “Dido “Life for rent

10 Comments Add yours

  1. Omar Bilal says:

    رائعة حقا، بالرغم من الحزن الذي يبدأ من منتصف التدوينية الا أنه حزن جميل، ، يشاركك به عدد ليس بالقليل ،
    شكرًا لتحفزيك مخيلتنا على الأسراء الى دمشق الحبيبة، والتي اعرف الكثير من المناطق التي ذكرتيها باستثناء حي الحلبوني لكن وصفك الجميل والدقيق مكنني من التعرف عليها بصورة كافية،

    فقط لي ملاحظة ، ان سمحت لي طبعا، وبحسب موانة الصداقة الالكترونية، لو أني كتبت المدونة لكنت أسميتها حياة بالايجار أو حياة الإيجار بدلا للإيجار، وقد أكون مخطئا، ارجو ان يتسع صدرك لهذه الملاحظة البسيطة،
    دمت ذخرا
    عمر بلال

    1. Reem Assil says:

      شكراً لتعليقك استاذ عمر، لقد تقصدت أن أسمي التدوينة “حياة للإيجار” لأنها حياتي التي كانت معروضة للإيجار لعشرين سنة انقضت، فلا أنا استثمرت فيها (لأنها للأجرة وما كان للأجرة نؤثثه كما يقال بالعامية من قريبو) ولا المستأجرين بطبيعة الحالاستثمروا فيها، كل منهم استهلك منها ما استهلك وخرب فيها ما خرب قبل أن يغادر … فهي حياة للإيجار وأحيا فيها بدوري بالإيجار

  2. Omar Bilal says:

    شكرًا للرد، أعني تماما ما تقولوينه وتعنيه، شيء محزن،

  3. Talat says:

    ان شاء الله ريم الحياةبتصالحك وبتعطيكي يلي يسعدك ويفرح قلبك

    1. Reem Assil says:

      شكراً طلعت

  4. Noura alhafez says:

    رائعة. . في البداية أحسست اني داخل تلك البيوت والطرقات. .كأنها حقيقة …تصوير دقيق لتفاصيل تنطوي تحتها الكثير والكثير من الأحداث التي كانت ..وتفاصيل لايشعر بها إلا من عاشها. ..
    كلماتك شدتني حتى وصلت إلى النهاية وقلت لنفسي اني منذ صغري لا أعرف ذلك الوطن. .وربما لم أملك أحلاما اسهر معها وكأنها كانت محرمة كتحريم الكثير من الأمور ..
    منهكة تلك الحياة للايجار. .محزنة إلى الحد الذي يستنزف الأرواح أحيانا. . ولكن كلي تفاؤل انك سترجعين يوما إلى الاحلام وتمتلكين حياتك كما تريدين انت ..برسمك وصورة في خيالك تتحقق قريبا …
    يارب ????

    1. Reem Assil says:

      ان شاء الله نحقق جميعاً ما نحب

    1. Reem Assil says:

      I love this song too 🙂

      1. Happy Dolphin says:

        I know…

Tell me what you think, leave a Reply