English available Here
بعد ثلاثة أشهر من انهيار نظام الأسد، تقف سوريا عند مفترق طرق حاسم. لا تزال عقود من القمع الممنهج، والعنف الطائفي، والصدمات (التروما) العابرة للأجيال دون معالجة. ومع ذلك، يبدو أن الحكومة الحالية غير مستعدة، أو غير راغبة، في الانخراط في عمليات عدالة حقيقية تعالج حجم الأضرار بشكل كامل. يتركز جزء كبير من الخطاب في سوريا اليوم حول العدالة الانتقالية، لكنها غالبًا ما تُفهم بشكل خاطئ على أنها مجرد آليات للعدالة الجنائية. في المقابل، يغيب إلى حد كبير النقاش الأعمق والأكثر ضرورة حول العدالة التحويلية التقاطعية.
يهدف هذا المقال إلى توضيح هذين النهجين، وبيان أهميتهما في منع المزيد من الانقسام والعنف، ولماذا يتطلب تحقيق مستقبل عادل لسوريا نهجًا قائمًا على الوعي بالصدمات (التروما) الجمعية، ومناهضة القمع والاستبداد، ومركزة التحرر الجمعي.
ما هي العدالة الانتقالية؟
العدالة الانتقالية هي العملية التي تتبناها المجتمعات لمعالجة انتهاكات حقوق الإنسان بعد النزاعات أو الحكم الاستبدادي. وعادةً ما تشمل أربعة ركائز أساسية:
- المساءلة الجنائية : محاكمة مرتكبي الجرائم الجماعية.
- إظهار الحقيقة : توثيق الانتهاكات المنهجية والاعتراف بتأثيرها.
- التعويضات : تقديم تعويضات مادية ورمزية للضحايا.
- الإصلاح المؤسساتي: إعادة هيكلة المؤسسات القمعية لمنع الانتهاكات المستقبلية.
في سوريا، تُعد هذه التدابير ضرورية لمحاسبة مجرمي الحرب، والاعتراف بمعاناة الناجيات والناجين، وإعادة بناء مؤسسات تخدم جميع السوريين. ومع ذلك، فإن العدالة الانتقالية وحدها لا تضمن تحقيق السلام الدائم أو الشفاء العميق أو تفكيك البُنى القمعية، خاصةً في مجتمع منقسم دمرته الحرب.
محدوديات العدالة الانتقالية دون تحول جذري عميق
على الرغم من أن العدالة الانتقالية خطوة ضرورية، إلا أنها غالبًا ما تعمل ضمن بًنى القوى المهيمنة و الهياكل القائمة للسلطة. وإذا لم تتم معالجتها بشكل شامل، فإنها تخاطر بـ:
- تعزيز النخبوية: قد تسيطر النخب السياسية على المحاكم ولجان الحقيقة، مما يؤدي إلى استبعاد المجتمعات المهمشة (مثل النساء والمكونات العرقية و الدينية و الطائفية المختلفة واللاجئين) من المشاركة في تحديد مسارات العدالة.
- تجاهل العنف الهيكلي: لم تكن جرائم الأسد مجرد أفعال فردية، بل كانت جزءًا من نظام متجذر من المراقبة العسكرية والحكم القمعي والسيطرة الاجتماعية. إن التركيز فقط على الملاحقات الجنائية الفردية يتجاهل الأسباب الجذرية للقمع.
- الفشل في معالجة الصدمة (التروما) الجمعية: يجب أن تكون مسارات العدالة واعية بالصدمات، وأن تدرك كيف تم استخدام الخوف والعقاب والانقسام الطائفي كسلاح ضد السوريين لأجيال.
ما هي العدالة التحويلية التقاطعية؟
تتجاوز العدالة التحويلية التقاطعية التدابير العقابية والإصلاحات التي تركز على الدولة من خلال:
- توجيه العدالة نحو الفئات المهمشة: إعطاء الأولوية للمجتمعات الأكثر تأثراً بالحرب والقمع، كالنساء، والمكونات الدينية والإثنية، والأشخاص ذوي و ذوات التوجهات الجندرية والجنسية المتنوعة، و الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة، واللاجئين، وعوائل المعتقلين والناجين من الاختفاء القسري والتعذيب.
- تفكيك أنظمة القمع: معالجة الأسباب الجذرية للضرر، الاستبداد، والطائفية، والنظام الأبوي، والعسكرة، وبناء هياكل أكثر عدالة.
- إعطاء الأولوية للشفاء والمصالحة: الاعتراف بأن العدالة ليست مجرد عملية قانونية، بل تشمل أيضاً الأبعاد العاطفية والثقافية والروحية، وتتطلب إظهار الحقيقة وعملية شفاء قائمة على المجتمع والإشراك المجتمعي.
- الانتقال من الهيمنة إلى المشاركة الفاعلة: التحول من الحكم المركزي إلى مبادرات يقودها المجتمع، وهياكل سياسية لامركزية، ونماذج اقتصادية قائمة على التعاون والرعاية المتبادلة.
بالنسبة لسوريا، ليست العدالة التحويلية التقاطعية خياراً إضافياً، بل هي ضرورة حتمية لمنع تكرار دورات العنف والطائفية وعودة الاستبداد.
إصلاح الضرر: التعلم من سياقات أخرى
معالجة الضرر بطريقة حساسة ثقافيًا ومتقاطعة تتطلب النظر إلى تجارب عالمية سعت إلى تحقيق العدالة خارج إطار الإجراءات العقابية وتحديد مواضع نجاحها و قصورها:
- لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا (TRC) – ركزت على العدالة التصالحية، مما أتاح للضحايا فرصة إسماع أصواتهم والاعتراف بالضرر المنهجي بدلاً من الاقتصار على معاقبة الأفراد. ومع ذلك، فإن أوجه القصور في التعويضات الاقتصادية تسلط الضوء على ضرورة أن تتجاوز العدالة التدابير الرمزية. ورغم محدودية قدرتها على تفكيك التفاوتات الاقتصادية العرقية بالكامل، قدمت اللجنة مساحة للتفاعل العلني بين الضحايا والجناة، مما أظهر قوة الاعتراف العلني في تحقيق الشفاء الجماعي.
- محاكم الغاتشاتشا في رواندا – أتاحت هذه المحاكم المجتمعية الفرصة لرواية الحقيقة وإعادة الاندماج بعد الإبادة الجماعية عام 1994، مما يُظهر أهمية الآليات العدلية المحلية. ومع ذلك، فقد كشفت أيضًا عن المخاطر التي ترافق عمليات العدالة التي لا تعالج الصدمات أو التفاوتات المنهجية بشكل كامل.
- الولاية القضائية الخاصة للسلام في كولومبيا (JEP) – يشمل هذا النموذج التعويضات، واعتراف الجناة بالضرر، وإجراءات عدالة غير عقابية، مما يضع احتياجات الضحايا في مركز عملية العدالة بدلاً من التركيز فقط على العقاب.
- البوسنة والهرسك – تُظهر الإبادة الجماعية في سربرنيتسا (1995) وحملات التطهير العرقي ضد البوشناق المسلمين مخاطر ترك الكراهية الطائفية دون معالجة. وقد جمعت عملية العدالة بعد الحرب في البوسنة بين المحاكمات الجنائية (مثل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة) وجهود التذكير، بما في ذلك المتاحف والمعارض والمواقع التذكارية العامة. وقد كان إبقاء الندوب ظاهرة، من خلال أماكن مثل مركز سربرنيتسا التذكاري، أمرًا ضروريًا لمنع محو التاريخ أو تكراره، والاعتراف بآلام الناجين، وتعزيز الشفاء الجماعي. يجب على سوريا أن تتعلم من تجربة البوسنة وتقاوم إغراء دفن تاريخها الصادم تحت شعارات “التقدم إلى الأمام” بسرعة مفرطة.
- لبنان – بعد الحرب الأهلية، تبنى لبنان قانون العفو الذي سمح للعديد من الجناة بالإفلات من المساءلة، مما ساهم في استمرار الفساد والطائفية والعنف. لقد أدى الفشل في الانخراط في كشف الحقيقة والعدالة الإصلاحية إلى ترك الجراح مفتوحة، مما يُظهر لسوريا ما يحدث عندما يتم تجاهل الضرر بدلاً من مواجهته.
- كوسوفو – بعد الحرب في كوسوفو، سعت مبادرات كشف الحقيقة وآليات العدالة الانتقالية إلى توثيق معاناة الألبان الكوسوفيين وغيرهم من الضحايا. ومع ذلك، فإن الفشل في دمج الدعم النفسي والاجتماعي بشكل كامل وجهود المصالحة المجتمعية أدى إلى استمرار الانقسامات العميقة. ينبغي على سوريا أن تتبنى نهجًا أكثر شمولية يشمل العمليات القانونية إلى جانب عمليات الشفاء التي يقودها المجتمع.
- أنظمة العدالة لدى الشعوب الأصلية – تستخدم العديد من المجتمعات الأصلية حول العالم نماذج عدالة تقوم على المصالحة والتشافي الجمعي واستعادة الأراضي و جبر الضرر، بدلاً من الحبس العقابي. يمكن أن تستفيد عملية العدالة في سوريا من نماذج محلية يقودها المجتمع، تدمج الطقوس الثقافية، ورواية القصص، والشفاء التصالحي.
إن إصلاح وجبر الضرر في سوريا يجب ألا يُملى فقط من قبل نماذج خارجية، بل يجب أن يكون عملية تشاركية يصوغها الناجون السوريون، وقادة المجتمع، والممارسون في مجال العدالة، لتعكس السياق الثقافي والديني والتاريخي للبلاد.
المشاركة في صياغة مسارات التشافي مع المتضررات والمتضررين من المجتمعات السورية: التركيز على الرعاية الجماعية والفرح
لكي تكون العدالة في سوريا تحررية بحق، يجب ألا تقتصر على معالجة الماضي، بل أن تعزز أيضًا الرعاية الجمعية والفرح. الشفاء لا يعني فقط غياب العنف، بل يعني وجود الأمان والكرامة وإحياء الثقافة.
لتحقيق ذلك، يجب أن تتبنى جهود العدالة الأسس التالية:
- إشراك المجتمعات السورية في مسارات إبداعية تشاركية، لا ينبغي فرض العدالة من الأعلى، بل يجب أن تتم صياغتها من قبل الناجين والناجيات أنفسهم والمنظمات الشعبية والقيادات الثقافية والمجتمعية والدينية.
- دعم الخبراء والممارسين في توفير المساحات الآمنة، يجب أن يكون لأخصائيات وأخصائيي الصدمات (التروما) الجمعية، والمعالجين الجسديين، والفنانين والفنانات، وميسري المجتمع دور محوري في إنشاء مساحات آمنة للتشافي الجمعي واستعادة الشعور بالقدرة على التأثير.
- دمج الممارسات الثقافية والطقوسية في عمليات التشافي، يجب أن تكون الطقوس الدينية و الموسيقى ورواية القصص والرقص وتقاليد الطعام أدوات لإعادة التواصل والإصلاح المجتمعي.
- ضمان الدعم المؤسساتي والحكومي، يجب أن ينتقل دور الحكومة الحالية من الإهمال أو التقييد إلى تمكين المبادرات المجتمعية للعدالة من خلال الدعم القانوني والتمويل والبنية التحتية المستدامة.
كيف يمكننا تحقيق عدالة تداوي الجراح؟
لمنع سوريا من الانزلاق إلى العنف المتجدد، يجب اتخاذ خطوات عاجلة وطويلة الأمد:
- توسيع مفهوم العدالة: تحدي الفكرة القائلة بأن العدالة تقتصر فقط على الملاحقات الجنائية.
- إنشاء مبادرات مجتمعية لرواية الحقيقة والتوثيق: يجب تشكيل لجان كشف الحقيقة بقيادة السوريات والسوريين أنفسهم لتوثيق الفظائع وتكريم الضحايا.
- الاستثمار المستمر في التشافي الجمعي: يجب تضمين ممارسات تراعي الصدمات الجسدية والنفسية (التروما) و تكون متجذرة ثقافيًا في عمليات العدالة.
- دعم المبادرات السورية المحلية: يجب إعطاء الأولوية للقيادات النسائية ومنظمات المجتمع المدني القاعدية وخصوصاً المحلية الممثلة تمثيلاً عادلاً ومعنوياً لللمكونات الدينية والإثنية والطائفية والطبقية المختلفة وتوفير التمويل لها.
- رفض العودة إلى السلطوية: يجب أن تعكس مسارات العدالة نموذجًا ديمقراطيًا حقيقياً، يراعي، بغض النظر عن التسميات، الخصوصية الثقافية السورية بتعقيداتها وتنوعها، وليس إعادة إنتاج أشكال القمع السابقة.
مستقبل قائم على التحرر الجمعي هو ليس فقط الحُلم، بل الضامن الوحيد لمستقبل سوري أفضل للجميع
تحقيق العدالة في سوريا لا يتعلق فقط بالمحاكمات، بل بالتحول الجذري العميق. بدون إطار متقاطع ومناهض للقمع والاستبداد، ستفشل العدالة الانتقالية في منع العنف المستقبلي. من خلال التعلم من النزاعات السابقة، وترسيخ الرعاية الجمعية، وضمان الاعتراف بالندوب التاريخية، تمتلك سوريا فرصة لكسر الحلقة المفرغة وبناء مستقبل قائم على الحقيقة والمساءلة والشفاء المشترك.
One Comment Add yours