فلتقولوا عني مجنونة … لكن قبل ذلك اقرأوا هذه القصة!
منذ عشرة أيام حزمت حقائبي وركبت القطار إلى الشمال، إلى مدينة البرد، ملأت حقيبتي بالكثير من التخمينات والتوقعات والتساؤلات والاستشرافات لأسبوع يعد بأن يحمل لي الكثير. لأول مرة منذ ما يزيد عن سبع سنوات سأكون لوحدي طوال ثمانية أيام، دون مسؤوليات، دون ارتباطات، دون أن يكون هناك ما هو مربوط برسغي وكاحلي يقيد خطواتي وحركاتي في كل لحظة، شعور بالحرية لم أختبره منذ زمن ليس بالقليل حتى كدت أنساه.
“النساء في النزاعات” هذا هو العنوان المفترض لأسبوعي، ومع كل ما يمكن أن يحمله عنوان كهذا في جعبته، وفي صباح أول يوم، نزلت إلى بهو الفندق لتناول الفطور، وعندما اقتربت من الطاولة لاحظت بأن مطبخ الفندق يلعب لعبة صغيرة في الصباح مع النزلاء، حيث أنه يؤشر البيض حسب درجة السلق، إما بوجوهٍ مرسومةٍ عليه ليشير لنصف سلق وإما بكتابات ليشير للسلق الكامل. ولأنني لازلت أحمل بين جنبي طفلةً بنت عشر فقد رقص قلبي فرحاً للعبة، ولأنني أحب أن أعتقد بأن الكون يخاطبني وأخاطبه، وبأنه يبعث لي برسائله بين الحين والآخر فقد قررت أن التقط كل يوم بيضة لا على التعيين لأرى ماهي رسالة الكون لي في ذاك اليوم. وفي اليوم الأول التقت بيضةً تقول “مرحباً” وردّدت بيني وبين نفسي نعم “مرحباً” بدأت اللعبة وبدأت الرحلة، أخذت فطوري واخترت طاولة صغيرة في المنتصف، قلّبت عينيي في أرجاء الغرفة فلمحت عند النافذة فتاة سمراء بشعر أسود وعينين أحسست أني أعرفهما منذ زمن، ابتسمت لها وأشرت لها أن تشاركني طاولتي، تعارفنا، وقدمنا أنفسنا، من الشام قلتُ، من حيفا أجابتني ….. قلت لها وتعيشين في بريطانيا؟ فأجابت: “لا، بعيش في البلاد” …..
يااااااه …. و رمقتها للحظة … في البلاد، في تلك البلاد التي تعيش في قصص غسان وشعر درويش … بدا لي المشهد سيريالياً للحظة وقلت في نفسي: يا لها من بداية!
التقيت يومها باليمن وليبيا ودمشق و روجافا واربيل وتركيا والعراق، كان اسبوعاً حافلاً مليئاً، وفي كل صباح كنت ألعب نفس اللعبة مع الكون و رسائله المكتوبة على البيض، يوماً يقول لي : “pick me up اخترني” ويوماً يقول: “نهار سعيد”، أو نهار مشمس، أو rise and shine انهض والمع … الخ، ومع كل يوم كنت أتقرب ممن وضعهم هذا القدر في طريقي خلال هذا الأسبوع أكثر وأكثر … تشاركنا الدموع، وتشاركنا الضحكات … تشاركنا برودة الليل القارص حين كان يمشي في جوانحنا، وحرارة الغضب حين كان يغلي في العروق … تشاركنا مرارة الخيبة حين كانت تنهشنا قلة الحيلة، وحلاوة الأمل حين كان الوعد يراقصنا على أنغام اسكوتلندية!
ما تشاركناه كان أكبر بكثير من مساحة أسبوع، وأعمق بكثير من كل أخاديد الجروح التي حفرها الزمن على وجنات تجاربنا الحياتية على اختلافها.
وككلّ قصةٍ، وككلّ حلمٍ، وككلّ عمر، دنا اسبوعنا من نهايته، وحضر سيد كلّ المواقف الذي لا نملك أمامه إلا الرضوخ … حضر الوداع …. عناقٌ وقُبَلٌ ودموع .. ما كانت ولا كانت لتقنع الروح بتسريحٍ بإحسان … لكن لابد مما ليس منه بد …
وذهبنا كلٌّ إلى وجهته نجر حقائباً حبلى بالكثير من إشارات الاستفهام والتعجب، والمزيد من بذورٍ لخططٍ مستقبليةٍ تعد بالكثير!
بقي أمامي ٣٠ دقيقة قبل موعد قطار العودة، ولأني لا أستطيع مقاومة رغبات تلك الطفلة التي في داخلي والتي ترفض أن تكبر مهما مرّ بي وبها من أهوال تشيب الرضع، ولأنها أمسكت بيدي وظلت تلح، لا تغلقي الحقيبة، لم ننته بعد، فهناك شئ نسيتِ أن تأخذيه، تعالي معي، ما زال معنا متسعٌ من الوقت، تعالي إنّه أخر يوم، أخر لعبة، آخر رسالة … استسلمت للصغيرة المشاكسة و نزلت إلى بهو الفندق واتجهت إلى حيث يصطف البيض منتظراً، وقلت لنفسي “أنتِ مجنونة حقاً” وأغمضت عينيي ومددت يدي والتقطت واحدة …. وفتحت عينيي ونظرت للرسالة الأخيرة التي وضعها الكون في يدي …. كلمة واحدة مع إشارة تعجب …. “الحب!” ….
نعم، هذا آخر ما همس لي به الكون في لعبتنا الأخيرة التي دارت أحداثها في مدينة المتناقضات ادنبرة … كل الأسئلة، ماذا الآن؟ ماذا بعد؟ ما الذي ينتظرنا؟ … ما الحل؟ … ما العمل؟ … إلى أين؟ ….. والجواب وحيدٌ واحد: “الحب”!
ضمني أسبوعي آخر ضمة وشدّ ذراعيه، طبع على جبيني قبلةً وحيدةً، ودنا من أذني وقال: “الحب مبتدأ هذا الكون ومنتهاه” …. أسلمني أسبوعي لطريق عودتي الطويل وأنا أعلم أننا لن نعجز … ما دامت في صدورنا قلوبٌ تنبض … قادرةٌ أن تحب… مهما حصل!
أدنبرة – نوفمبر ٢٠١٦