نحن كبشر، نحب ونسعد لتدوير الصور اللامعة، ونهرع سريعاً لتبادل التهاني والتبريكات والطقوس رافعة المزاج، رمضان ليس استثناءً …
أنا شخصياً أدافع وأروّج دوماً لاقتناص واغتنام كلّ الفرص للفرح وللتواصل مع الإنسان، أياً كان … لكنني لن أفعل هذا اليوم، لماذا؟
لأنه باعتقادي أنّ هناك خطٌ دقيقٌ فاصلٌ بين اغتنام الفرصة للشعور بالحبور والسعادة والسلام الداخلي والتواصل مع الإنسان الآخر من حولنا، وبين “نفاق السعادة” … خطٌ دقيق فاصل بين خلق هذه الفرصة واقتناصها حين تمر، لتنمية درجة وعينا وحضورنا في هذه الحياة وعلى هذا الكوكب، وبين الطقوس التمثيلية الفارغة المستهلكة التي تزيد الشروخ الإنسانية وتخنق الروح …
احتمالية الانقلاب بين طرفي النقيض بين الحالتين عالية جداً وسريعة الحدوث … وهو ما أراه يحدث مع رمضان، لذلك قررتُ أن أشارك معكم اليوم الوجه الآخر من رمضان، رمضان المؤلم، الذي نتواطأ بشكل جمعي على التعامي عنه وادعاء عدم وجوده لأننا لا نرغب بتشويه الصورة الاستهلاكية التي تروّج لرمضان على أنه فرصة “سعيدة” …. نحب و يواتينا نفسياً أن نفكر أن رمضان هو الشياطين المصفّدة وأنّ البشر ، من ضمنهم نحن اوتوماتيكياً، يحلّقون روحانياً، وأن الجميع من فقيرٍ وغني، مؤمنٍ برمضان وغير مؤمن، كلّهم سعداء ويرفلون في تظاهرة من السلام الوجداني … هذه هي الصورة التي يعرفها معظمنا عن رمضان، لكن هل وقفنا مع أنفسنا لنسألها، ترى هل تأتينا هذه الصورة من مرآة مقعرة أم حقيقية؟ … بمعنى آخر، هل هي انعكاسٌ حقيقيٌ لواقع الإنسانية الواجداني في هذا الشهر أم أننا نشعر بها كذلك لأننا تبرمجنا على أن نشعر بها بهذا الشكل؟ … هل تواطأنا بشكلٍ جمعيٍ على تبني هذا الانعكاس؟ فلا نحن نشقى بالتفكير أو التفكر، ولا السوق يشقى بمزاج المستهلك المعكر غير الحاضر للتوليف على موجة الاستهلاك، سواء الغذائي أو المشاعري؟
أسئلة سأطرحها عليكم اليوم حتى وإن خالفتُ السائد … حتى وإن سبّبتُ لكم حالة من القلق النفسي … حتى وإن بدوتُ كهادم اللذات … سأضع بين أيديكم انعكاساً يقبع هناك منذ عصورٍ في مرآةٍ صغيرة في زاوية وعينا، نتفق جميعاً كلّ عام على تغطيتها بالشراشف، وقد صادف أن مررتُ بجانبها هذا العام وانتابني الفضول فأزحتُ الشرشف … فتعالوا وانظروا إلى ما وجدتُ، تعالوا وانظروا إلى رمضان المؤلم …
أحدهم قال لي منذ يومين: “لا أحبّ رمضان، رمضان يخنقني، وحين سألتُه لماذا؟ قال لي لقد ربّتني أمٌ عازبة في مجتمع يخنق الأمهات العازبات … رمضان يذكرني بوحدتها … تلك الوحدة التي شاهدتها تقتات على شبابها وكهولتها دون رحمةٍ سنةً بعد سنة… شاهدتها تذوي في منفاها الاجتماعي النفسي رمضاناً بعد رمضان، في حين كان “أبي” الذي أسس لنفسه “عائلة” سوانا بلمح البصر وكأننا لا وجود لنا، وكأننا نزوةٌ عابرة يكفي الصيام لمحوها، ينعم برمضاناتٍ عائليةٍ لا تنتهي …. سعادةُ رمضان كالمطاعم المخصصة للعوائل، لا يمكننا نحن من لا عوائل لنا دخولها، نتفرج من الخارج فقط ولا سبيل لدينا لاختبار صحتها من كذبها … على العكس، حصتنا مما بقي اجتماعياً من فتات هذا الشهر مؤلمة … رمضان بالنسبة لي هو الإقصاء، وهو الصمت المؤلم الذي تواطأ الجميع عليه بما فيهم نحن “من لا دور لنا في سعادة رمضان” … أتقنّا تمثيل الروحانيات حدّ الاختناق … كان علينا أن نلعب دور المحلّق روحياً في هذا الشهر رغم مرارتنا فلعبناه، لسنين طويلة، استضفنا القهر والظلم معنا على مائدة الإفطار والسحور في منفانا الاجتماعي كلّ يوم، ورافقاني وإخوتي إلى صلاة العيد في نهاية كلّ رمضان على غير استحياء وسط همزات ولمزات الجيران “أبوهم تركهم” … من ذا الذي يزور في العيد امرأةً عازبةً مع أطفال؟ الأعياد للزيارات العائلية … هل ترغبين بمعرفة كيف كان يمرّ علينا رمضان والعيد؟ لا نحن استقبلنا الزوار ولا كنا زواراً مرغوباً بهم … خصصنا للقهر والظلم صدر البيت و افترشنا العتبة وتواطأنا جميعاً على تجاهل وجودهما، ولم نعطِ أنفسنا حق الصراخ ولا مرة “هذا ليس عدلاً … كفى نفاقاً” … الآن فقط أمتلك شجاعة أن أقول أن رمضان يخنقني ولا أحبه ولا أحب قدومه … ولن أشارك بعد اليوم في تظاهرة الكذب على الذات ولن أقول رمضان شهر التآلف والرحمة … لأنه ليس كذلك … لن أكذب على نفسي ولن أقول بعد اليوم “مرحبا رمضان”!
قال لي آخر: “هذه هي الذكرى السابعة لسرقة أموالي من قبل قريبي … قريبي صائمٌ مصلي، وأنا كذلك … لكنه سرق أموالي … بقينا نعايد بعضنا في كلّ رمضان خلال السنوات الماضية … “طاعة مقبولة” نردد … عن أية طاعةٍ نتحدث لا أعرف، هل صيامنا عن الأكل والشرب هو الطاعة؟ ماذا عن صيامنا عن أكل أموال بعضنا؟ …. رمضان يذكرني بالخذلان، يذكرني بالمفارقة المقرفة، ويغمد خنجراً في روحي عند قدومه في كلّ عام … يجدد آلامي في مجتمعٍ لا سبيل فيه لإحقاق الحق، فلا أحد يهتم ماذا أكلتَ أو ممن أكلتَ طالما أن جهازك الهضمي يتوقف عن الأكل بين الفجر والمغرب لمدة شهرٍ من كلّ عام … أحبّ رمضان لكنّ مرارةً تأبى إلا أن تشاركني أيامه، وشيطانٌ يقف هناك قبالتي عند مطلع كلّ رمضان، مادّاً لسانه، ضاحكاً باستهزاء … أنا لستُ مصفّداً يقول لي، وأنت تراني وتعلم أني لست مصّفداً لكن لن يصدقك أحد، فمن أنت يا هذا حتى تقول لهم انظروا، شياطينكم ترتع بينكم في رمضانكم … شياطينكم يصاحبونكم على موائدكم، وفي طرقاتكم نحو تراويحكم، يتابعون تدليل “النفس الأمارة” بين جنباتكم، وتدليك الإيغو بإلباسه عباءات الصّلاح حتى يتابع غيّه وظلمه في رمضان وبعد رمضان بعيداً عن عين الرقيب … أنت تراني وتعلم بوجودي علم اليقين يقول لي الشيطان، لكن لن يصدقك أحد، فلتتجرع ألمك وحدك ولتتابع التبريكات … “طاعة مقبولة”!
هل أتابع؟
هل أخبركم عن التي قالت لي رمضان هو انكسار أمي وذلّها، والرعب من غضب أبي الجائع كضبعٍ هائجٍ ساعة الإفطار، فالويل كلّ الويل إن كان الملح زائداً أو ناقصاً، أو كان الأكل ساخناً كثيراً أو ليس ساخناً بما فيه الكفاية … أنا الآن لا أصوم قالت لي، ولا أعيش مع أبي وأمي، ومع ذلك مازلت أتوتر عند كلّ أذان مغرب في هذا الشهر، أشعر وكأنّ يوم الحساب على وشك القدوم … قضيتُ سنين مراهقتي وأنا أدافع الرغبة بأن أصرخ في وجه أبي “لا تصووووم، لا تصوم” … فالصيام يجعل منك كائناً مرعباً، الصيام ينقلك من خانة البشر إلى خانة الكائنات المفترسة، وحتى الكائنات المفترسة لا تفترس عائلتها، لكنك تفترسنا عند نهاية كلّ نهار، تفترس أعصابنا … وهذه المسكينة، التي لطالما كان عليها أن تمسح وتكنس بقايا الصحون والطعام الذي قررتَ أنتَ أن تعاقبها وتعاقبنا جميعاً بقلب الطاولة على الأرض لأنها أخطأت بتعليمةٍ كنتَ قد كررتها عليها مراراً … أكرهها هي أيضاً، لماذا كان عليها أن تصوم؟ كنت أردد بداخلي “لا تصووومي، لا تصومي” فأنتِ أضعف من أن تصومي، وأضعف من أن تتحملي عواقب الصيام … ثم ما الهدف من كلّ هذا؟ … وفوق كل هذا كان علينا جميعاً أن نمثّل أننا فرحون بهذا الشهر، وأننا نتظره، هل تتخيلين؟ من ذاك المهووس الذي قد ينتظر الرعب؟ كنا نردد كالببغاوات “رمضان مبارك” … عن أي بركةٍ كنا نتحدث؟ … عن البركة التي تغادر بيتنا حالما يدخله رمضان؟ … نعم أنا لا أصوم الآن لأنني لا أريد أن أكون لا أبي ولا أمي … ولا أحب رمضان … فليبقَ بعيداً عني هو و”بركته”!
رمضان المؤلم ليس حالةً فرديةً أو تواجداً نُقطياً … هو حالةٌ جماعية وإن تعامينا عنها … مرّت معي على حائط الفيسبوك منذ يومين جملة: “كما أنه لا يصح الحج إلا في مكة، لا يصح الصيام إلا في دمشق” … طبعاً كعادتنا نتقن فن التعليقات الساخرة والتهكمية كما نتقن فنّ الكذب على الذات، لكنني وقفت عند هذه الجملة طويلاً، أعرف صاحبها الذي يعيش منذ سنين وحيداً في بقعةٍ ما من هذه الكرة الأرضية، وقد قال لي في السنة الماضية أنه لا يشعر برمضان منذ أن غادر أهله وغادر دمشق ليعيش وحيداً … هذه الجملة التي وضعنا عليها تفاعلاً ضاحكاً أو باكياً وسخرنا أو هززنا رؤوسنا وتابعنا تصفحنا الافتراضي، لم تكن ترفاً أدبياً، هذه الجملة التي تبرمجنا على أن نتلقاها ومثيلاتها اوتوماتيكياً بالتهكم ونتابع صيامنا وربما يتابع كاتبوها صيامهم، كانت صرخة استغاثة، تعبر عن ألم كاتبها من رمضان … ألمه الذي أشاركه به … فعلى مدى سنينٍ طويلةٍ سألتُ نفسي ما الطائل؟ … ما الطائل من الجوع والعطش لساعاتٍ طويلة جداً في بلادٍ لا ترحم وليس لنا فيها من رمضان إلا الجوع والعطش والعزلة والغربة … لماذا نكابر ونقول “رمضان كريم” …رمضان للمنفيين، للوحيدين، للمبعدين عن أهلهم وأحبتهم ليس كريماً … الإفطار وحيداً كشريدٍ منسيٍ على حافة الزمن ليس كريماً، إلا اللهم إن كنّا سنعتبره كريماً مغدقاً بأوجاعه وبحنينه المؤلم … وإجبار أنفسنا على الشعور بكرمه الغائب ما هو إلا جلدٌ للذات … ويردد الجميع: كلّ عام وأنتم بخير … ماذا إن لم نكن بخير؟ … ماذا إن كنا نغصّ مع كلّ لقمةٍ بذكرى من مات أو اختفى ومن خذلان البشرية … نختنق مع كلّ شربةٍ بشبح ما احترق أو ضاع ومن تنكر القريب والبعيد… ما الطائل من الكذب على الذات؟ … “وأنتم بخير” هو الجواب الاوتوماتيكي المنتظر من الجميع لذلك لا أحد يقول: “لستُ بخير” ….
أنا هنا لأقول اليوم لسنا جميعاً بخيرٍ بشكلٍ اوتوماتيكي في رمضان، وهذا الشهر ليس كريماً على الجميع بشكلٍ اوتوماتيكي … الشعور بكرمه يستدعي حالة من الوعي عالية لا يمتلكها الجميع اوتوماتيكياً، ولا يساعدنا الجو المحيط على تعلّمها، فلا أحد يذكرها أو يدلنا على طريق الوصول إليها … الكلّ يفترض وجودها اوتوماتيكياً … والكل متفقٌ على المتابعة في تلك التمثيلية اللامنتهية دون أن يجرؤ أحدٌ على السؤال، أين السيناريو؟ من المخرج؟ … الدور لا يناسبني … تعبت!
أنا هنا لأقول اليوم لسنا جميعاً بخيرٍ بشكلٍ اوتوماتيكي في رمضان، وهذا الشهر ليس كريماً على الجميع بشكلٍ اوتوماتيكي … الشعور بكرمه يستدعي حالة من الوعي عالية لا يمتلكها الجميع اوتوماتيكياً، ولا يساعدنا الجو المحيط على تعلّمها، فلا أحد يذكرها أو يدلنا على طريق الوصول إليها … الكلّ يفترض وجودها اوتوماتيكياً … والكل متفقٌ على المتابعة في تلك التمثيلية اللامنتهية دون أن يجرؤ أحدٌ على السؤال، أين السيناريو؟ من المخرج؟ … الدور لا يناسبني … تعبت!
توقفي، أسمعكم تقولون، كفى دراما … نعم ربما ترونها دراما، وأراها حقيقة … لا أعلم لماذا قرر هؤلاء الناس مشاركتي مشاعرهم، أو ربما أعلم … ربما لأنني ببساطة قررتُ شخصياً أن أخرج من حالة الكذب والتواطؤ على الذات، ولأنني كنتُ جاهزةً لأستمع لآلامهم دون تعييرهم أو الحكم عليهم فقد باحوا بها … هل هذا يعني أنهم وحدهم من يشعر هكذا؟ بالتأكيد لا … ولهذا السبب تحديداً اخترتُ أن أكتب لكم اليوم عن “رمضان المؤلم” …
هي دعوةٌ للحظةِ صدقٍ مع الذات … إن كنت تشعر أو تشعرين بالتحليق الروحي في هذا الشهر فهنيئاً لكم، لكنها دعوة لسبر أغوار هذا التحليق الروحي وتلمّس أبعاده … هل تختبرونه لأنكم مبرمجون على اختباره؟ أم لأنكم تمارسون حالةً اختيارية من حضور الوعي؟ حالة من التفكر ؟ … حالة من التأمل الصادق مع النفس والمحيط؟ … دون سواتر، دون مرايا مغطاة بالشراشف مدكوكة بعناية في الزوايا ومرايا أخرى مقعرة انتقائية تحتل وسط الغرفة تُظهر فقط وتضخم ما يرغب السوق بإظهاره وتضخيمه لضمان الحفاظ على حالة من النوم الاستهلاكي الجماعي …
هي دعوة للإجابة على سؤال هل نعيش في هذا الشهر حالةً من حضور الوعي تؤهلنا لتبيان الواقع بعيوبه، بكذبه، بنفاقه، دون فلاتر، في زمن الفلاتر؟ … حالةً من حضور الوعي تفسح لنا المجال لنقول بصوتٍ عالٍ “رمضان يؤلمني هنا” … وتسمح لنا بوضع اليد على موقع الألم دون الخوف من العار والفضيحة والنبذ؟
ربما … ربما حينها سنتمكن من مداواة الألم … ربما حينها فقط ستتوقف التظاهرة الاستهلاكية المدعوة “رمضان” وستبدأ التظاهرة الروحانية … ربما حينها يستعيد رمضان جوهره … وحينها فقط يمكن للوعي الجمعي أن يعيش شهراً من التحليق.
قل لي الآن … من أين يؤلمك رمضان؟