كان يكبرها بعامٍ أو ربّما عامين، لم يستطع أن يعرف على وجه التحقيق، كان أشقراً بعيونٍ ملونة، خضراء ربما أو زرقاء أو رمادية، رغم وَلَعِه بالعيون إلّا أنّ أحداً لم يهتمّ بأن يُطيل النظر في عينيه يوماً كفايةً ليُخبرَه كيف يبدو لونُ عينيه … بدأ يغزو وجهَه زغبٌ أشقر وبعضٌ من حبّ الشباب خرّبَ علاقته التي لم تكن جيدةً أصلاً مع المرآة …
كان حلبياً يقطنُ في حلب، وُلِدَ هنا، وشبّ هنا، لم يكن اجتماعياً ولم يكن لديه الكثير من الأصدقاء، كان أصغرَ أفرادِ عائلةٍ لم يَكتبْ لها القدرُ الكثيرَ من المحبة أو السّلام فانكفأتْ على آلامها وحظّها العاثر، بين مشاكل الأب الصحية التي ألزمته الفراش في سنٍّ مبكرٍ نسبياً، ومشاكل الأم النفسية التي حولتْ حياتها إلى مسلسلٍ طويلٍ تتناوبُ حلقاتُه بين قطبي استعارِجنونِ الغضب وحرقةِ دموعِ الانكسار، بالإضافة لمشاكل الأخوة الكبار الذين يصارعون لإيجاد مكانٍ لهم في عالمٍ ماديٍ لا يرحم … لا علاقاتٌ جيدة مع الأقرباء أو الجيران، ولا ما يكسرُ روتين الأيام الممل … بدا الكلُّ مشغولاً جداً وكان نصيبُه هو من الوحدة وافراً …
ها هو يخطو نحو سنّ الشّباب بكثيرٍ من التردد والضّياع … والخوف …
ينحصر العالم بالنسبة إليه في مدينته حلب، وكتابٍ يقرؤه ومجموعة أشرطة كاسيت كان يضيف إليها بين الحين والآخر شريطاً جديداً كلّما تجمّع لديه من مصروف جيبه ما يكفي … لم يعرف طوال حياته مدينةً أخرى أو أناساً من مدنٍ أخرى … إلاها …
كانت تأتي زائرةً من الشّام، كان يعرف هذا من لوحة سيارة والدها الدمشقية التي كانت تظهر مركونةً في الحي كلما ظهرتْ هي على إحدى شرف البناء المقابل … كانت ناصعة البياض بشعرٍ متموجٍ فاحم السواد، أمّا عيناها، فرغم المسافة التي كانت تفصله عنها كانتا بالنسبة له التمثيل الحيّ لبيتِ جريرٍ الشهير “إنّ العيون التي في طرفها حورٌ … قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا”
كانتا واسعتين سوداوين، بدتا له من مكانه شديدتي سواد السواد، شديدتي بياض البياض، كما كان يقرأ في كتاب الشعر الجاهلي المدرسي، وكان يرقبُها من بعيد، من شرفة منزلهم، كلما أطلّت على شرفتهم المقابلة، أو مرّت من وراء إحدى نوافذهم القريبة …
حين كانت تأتي زائرةً في بعض العُطَلِ المدرسية كان يصبح لديه في حياته ما يكسر روتين الأيام، هذا المملّ الذي لا يرحم … حين تأتي زائرةً كان يصبحُ لديه ما يجعلُ السّهرَ حلواً، وما يجعل الاستيقاظ صباحاً أحلى … كان يجلس هناك منتظراً … متفرجاً، حين كانت عائلتها تجتمع مثرثرةً حول فناجينِ قهوةِ بعد الظّهر على الشرفة، كما لم تفعل عائلتُه يوماً … أو حين كانت تقضي الليلَ وحيدةً هناك على شرفتها بصحبةِ كتابِها، كما كان هو يفعل دوماً …. كان يجلس هناك دوماً متفرجاً، و لم يستطع أن يقرر هل كانت عيناها أجمل في الليل أم في النهار …
وذات صباحٍ ربيعيٍ من إجازة منتصف العام التي قاربت على الانتهاء خرجتْ فتاتُه البعيدة القريبة، وجلستْ بجانب الياسمينة التي خُيّل إليه أن أقاربَها كانوا قد جلبوها معهم منذ أعوامٍ عندما انتقلوا من الشّام للعيش في حلب … تأملَها وهي جالسةٌ هناك مادّةً ساقيها النحيلتين أمامها على حافة الشرفة، ملقيةً برأسها إلى الوراء على ظهر الكرسي مُغمضةَ العينين …. بَدَتْ وكأنّها تتشربُ أشعةَ الشمس وزقزقةَ العصافير، وقفَ يرقبُها للحظاتٍ وشعرَ برغبةٍ عارمةٍ تكتسحُ كيانَه بأن يصرخَ طالباً منها أن تفتح عينيها، فلقد شعرَ فجأةً أنّه اشتاق إليهما كثيراً … وقريباً … ربما اليوم … ربما غداً … ستعودُ هي إلى الشّام من حيث أتَتْ … وقد لايرى عينيها بعد اليوم أبداً …. ولم يدرِ بنفسه إلا وهو يدير زر المسجلة ليشقّ صوتُ فيروز عنان سماءِ حلبَ الصّباحية …
موعود بعيونك أنا …. موعود
وشو قطعت كرمالون ..ضيع وجرود
ما زالتْ مُسندةً رأسها إلى الوراء مُغمضةَ العينين … هل هي نائمة؟ … هل تسمع؟ … يعلمُ أنّ صوتَ المسجلة عالٍ جداً … ويدري أن ليس أمامه إلا لحظات ٌ قليلةٌ فقط قبل أن يأتيه صوتُ أمّه أو أخيه ناهرَين طالبَين إطفاء المسجلة …
فإنتي انتي … فإنتي عيونك سود
ومانك عارفة … ومانك عارفة ….
شو بيعملوا فيي …. شو بيعملوا فيي ….
وكتنفسِ الليلِ الطويلِ عن صباح … فتحَتْ في تلك اللحظة على مهلٍ عينيها
شو بيعملوا فيي …. العيون السود …
هل أدارتْ رأسَها نحوه؟ أم أنه يتخيل؟!
موعود …. موعود….
تردد صوتُ فيروز في الفضاء بينهما بينما كانت هي تبحثُ عن مصدرِ الصوتِ حين رفعتْ نظرَها فوقعتْ عيناها عليه … واقفاً هناك متمسكاً بجدار الشّرفة كمن يخشى الوقوع … والتَقَتِ العيون …. ذاك اللقاءُ الذي طالما تخيّلَهُ وأعادَ تخيُّله مرّاتٍ وكرّات … التقتِ العيون أخيراً … و توقف الزّمن … تجمّد هناك … بَرَدَتْ أوصالُه … واشتعلَ قلبُه ناراً …
…كأنّ الكونَ قد توقف عن الدّوران … اختفتِ الشّرفاتُ والأبنيةُ والشّوارع، وبقي وحدَه هناك معلقاً في الهواء تحت سماءِ حلبَ الرّبيعيةِ الصّباحية … هو وعيناها وياسمينةُ جدّها الدمشقيةِ وصوتُ فيروز …
هل كانَ حُلُمَ يقظةٍ أم أنها حقيقة؟
لم يدرِ …. فلم يُعِدْهُ إلى الشّرفةِ إلا صوتُ قريبتها أو أختها أو صديقتها، لم يعرف على وجه التحديد من تكونُ تلك التي ظهرتْ فجأةً وراءَها وهي تطبق على كتفيها صارخةً وسط ضحكةٍ مشاكسة “يخرب بيت عيونك ياعليا شو حلوين”
هل كان اسمها عليا؟ … هل تعرفُ أنّه يقصدُها بتلك الكلمات التي تَرَكَ صوتَ فيروز ليفصحَ عنها حين عجزتْ حيلتُه ولسانُه؟ … هل تعرفُ ما تصنعُ عيناها السودُ بهِ وبروحه؟ … تُراها شعَرَتْ بما شعرَ به حين التقت نظراتُهما؟ … تراها عرفتْ ما لونُ عينيه؟ … لم يعرف …. لم يعرف ….
فها هو صوتُ أخيهِ يُرعِدُ في أذنيه “وطّي هالمسجلة يخرب بيتك فضحتنا … وفوت اشتغلّك شي شغلة تنفع”
كان ثملاً … كان خجلاً … كان يخفقُ قلبُه مسرعاً كما لم يفعل من قبل … لم يدرِ ما به … همّ بالدخولِ فتعثّرَ بعَتَبَةِ المطبخ في طريقه و كادَ يقع … هَرَبَ إلى غرفته سريعاً من سؤالِ أمّه ” مو شايف ادامك شو صايرلك؟” … لم يدرِ … ليته كان يدري “شو صاير له” … لكنه أدرك لاحقاً أنهم يسمّون الحالة التي ألمّتْ به في تلك اللحظةِ “عشقاً” …
لم يعرف … ما كان اسمُها … ما عمرها … ما عنوانها … كيف بإمكانه أن يجدها …
لم يعرف … فلم يبقَ له منها إلا لحظة … لحظة التقاء العيون … تلك اللحظة التي لم يدرِ أنّه سيحملها معه كقلادةٍ ترتديها روحه ما بقيتْ له روح ….
لم يعرف …. فقد كانت تلك آخرَ مرّةٍ يرى فيها عينيها التي لم يبقَ له من ذكراهما إلا طقسٌ فيروزيٌ ما زال يعتنقُهُ منذُ عشرينَ عاماً … مرنّماً مع تفتيحةِ عينيه في كلّ صباح ….
موعود … بعيونك أنا …. موعود …
(بإلهام من أغنية فيروز ع هدير البوسطة)
قصة رائعة يتذكرني بطولتي والخجل
بطفولتي