دعوني بدايةً أعيدُ على أسماعكم ما بتّم تعرفونه عني جيداً ربما، بأنني لا أتابع كرة القدم ولا أفقه فيها شيئاً، لكنني أتابع من يتابعونها ولديّ ما أقوله للنساء وعن النساء قبل أن ينتهي هذا الكأس. والسبب أن لديّ ما أقوله هو أنني على مايبدو التقطت متلازمة “تحليل الظواهر” التي يصاب بها كل من يعمل في مجال الأبحاث الاجتماعية، فحتى لو كان الموضوع خارج نطاق اختصاص الباحث الاجتماعي وهو الوضع في حالتي وحتى لو كان الأمر يتعلق بنزهةٍ في مساءٍ صيفيٍ على حافة نهر، فإن دماغ أولئك المعنيين بالأبحاث الاجتماعية سيقوم بشكلٍ اوتوماتيكي بالتعقب وملاحقة ما يعرف بعلم الاجتماع بالـ ” emerging themes” أو الأنماط البارزة التي تظهر من تحليل حدثٍ أو ظاهرةٍ ما.
إذاً بالعودة لكأس العالم، ما أرغب بمناقشته اليوم هو عن النساء و كرة القدم، طبعاً لا أقصد عن ممارسة النساء لكرة القدم ولو أن هذا حديثٌ يترتب علينا أن نفتحه يوماً ما، فأنا لا أعلم إلى الآن لماذا هذه اللعبة وهذا الحدث العالمي المسمّى كأس العالم ذكوريٌ إلى هذا الحد؟ لماذا لا يوجد فرقٌ نسائية؟ ربما كان هذا هو السبب أنني لم أشعر بأي اهتمامٍ تجاهه منذ أن بدأ الوعي بالتشكل لديّ وأدركت أنني كأنثى مقصاةٌ أنا وبنات جنسي من تلك الرقع الخضراء إلى أجلٍ غير مسمى … نعم نعم أعلم كلّ ما ستقولونه لي عن عدم ارتقاء مستوى النساء اللاعبات إلى مستوى الرجال، و عن خشونة اللعبة و و و … الخ من هذه الجدليات التي لها كلها ردودٌ تناسبها لكنني أكرر وأقول ليس هذا ما أريد أن أكتب عنه اليوم، كما أنني لن أكتب عن مشاهداتي فيما يتعلق بالتشجيع المبالغ به والتحزب والفرح والغضب المتطرف الذي يبدو لي جلياً منذ بدأ هذا الكأس على وسائل التواصل الاجتماعي وإن كان يستحق الكتابة والبحث. ما أرغب بمناقشته و بتسليط الضوء عليه هنا هو فقط عن متابعة النساء لكرة القدم و لكأس العالم تحديداً وعن تواجدهنّ في صفوف الجمهور.
من خلال متابعاتي، أستطيع أن أؤكد أن هذا الحدث الكروي يلاقي رواجاً بين صفوف النساء من شتّى الأشكال والألوان، فلديّ صديقات متابعات للكأس من جميع الشرائح العمرية، ومن مختلف المستويات التعليمية، والخلفيات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية أو اللادينية فإذا ليس هناك عاملٌ محددٌ على مايبدو يمكن على أساسه فرز المهتمات/ المتابعات لهذا الحدث عن غير المتابعات، ومن نافلة القول بأن هذا حقٌ طبيعي للنساء وليس لأحدٍ أن يمنعه عنهنّ، ورغم أن لا أحد عملياً يمنع عنهنّ هذا الحق وبالرغم من عدم وجود عاملٍ محددٍ لمتابعة النساء كما أسلفت، إلا أنني لاحظت من خلال متابعاتي أن هناك ظهوراً واضحاً ومتكرراً لثلاثة أنماطٍ بارزة emerging themes فيما يتعلق بتواجد الإناث في صفوف الجماهير. يجب أن أنوّه قبل أن أبدأ بتفصيل هذه الأنماط أنها ليست حصرية بأي شكلٍ من الأشكال، لكنها فقط الأكثر شيوعاً بناءً على مشاهداتي الشخصية، وهذا يعني بطبيعة الحال وجود بعض الإناث في صفوف المتابعين ممن لا ينتمينَ لأيٍّ من هذه الأنماط، كما يعني بأن هذه المشاهدات تعكس رأيي و رؤيتي الشخصية، ولا أدعي بأي حال من الأحوال إطلاقها على العموم أو تحويلها لنظريات وقوانين دامغة.
- النمط الأول – المتابِعة الأنثى التي تدور في فلك الذكور:
هذه الأنثى هي من تتابع اللعبة إمّا لتنتزع إعجاب الذكور وإمّا لتغيظ الذكور وتسجل هدفاً في مرماهم، فهي إمّا تشجع الفريق الذي يشجعه ذكرٌ ترغب بانتزاع إعجابه أو الحصول على رضاه، سواءً كان هذا الذكر أباً أو أخاً أو حبيباً أو ابناً أو صديقاً أو مديراً في العمل، ونراها تبالغ في تشجيع هذا الفريق وبالتالي قد تكون قفزتها أعلى من قفزة ذاك الذكر في حال إحراز الفريق لأيّ هدفٍ أو قد يكون صراخها وبكاؤها أعلى من صراخ ذات الذكر في حال خسارة الفريق. في الحالة الثانية من إناث النمط الأول، أي المتابعات اللائي يهدفن لإغاظة ذكرٍ ما، فإنهن لا يفترقن كثيراً عن إناث الحالة الأولى إلا بأنهن يشجعن فريق الخصم للفريق الذي يشجعه الذكر. وتبقى مظاهر التطرف بالتشجيع ذاتها. من الجدير بالذكر بأنه في كثير من الحالات لا تصرّح النساء بدوافعهنّ أو بانتمائهن للنمط الأول، لكنّي مررتُ بحالاتٍ حيث كان التصريح علنياً وبفخرٍ من نوع منشوراتٍ فيسبوكية على شاكلة “حبيبي ما بيفوز غير فريقنا وياااااااي فزنا اليوم حبيبي، نحن لا نهزم” وركزوا على “نا” الجماعة التي توصل الأنثى هنا لحبيبها من خلالها فكرة أنني أنا وأنت واحد، أو من شاكلة “والله لحتى نحنا نفوز ونحرقلكون قلبكون، يااااااي أصلاً ما بيطلعلكون معنا”، وركزوا هنا على مفهوم “نحن وأنتم” الواضح والذي يبرز بما لايدع مجالاً للشك تنافسية مع هذا الذكر لا تقف عند حدود المباراة.
- النمط الثاني – المتابِعة الأنثى المتهمة بالاسترجال:
خلافاً لنساء النمط الأول بحالتيهم، الأنثى هنا تتابع اللعبة وتشجع من تختار لأنها تريد أن تفعل ذلك ولأنها تجد متعةً فيه، أحسنتِ صنعاً عزيزتي فأنتِ تعرفين ما تريدين وما تحبين ولا تتحرجين من التعبير عن رأيك حتى ولو خالف رأي كل الجالسين معك في المقهى أو المتحلقين معك حول تلفازٍ يعرض مباراةً حامية في غرفة جلوس أحد الأصدقاء، لكنّ المشكلة التي تواجهكِ هنا هي أنهم يتوقعون منك أن تكوني ذكورية في تشجيعكِ وفي تعاطيكِ مع اللعبة ككل حتى يفسحوا لك مكاناً إلى جانبهم لا يضعك في خانة نساء النمط الأول أو النمط الثالث الذي سآتي على شرحه لاحقاً، وهي الطريقة الوحيدة بالنسبة لك التي يمكنكِ من خلالها إثبات وجودكِ بعيداً عن نساء الأنماط الأخرى. ومشكلتكِ الحقيقية هي أنك سرعان ما تتأقلمين مع المطلوب منكِ وتبدأين بلعب الدور المنوط بك طواعيةً وبكل حرفية، فتبدأين بتبني أساليب ذكورية في الحديث عن المباراة و في النكات التي ستستخدمينها لاحقاً لإغاظة منافسيكِ من المشجعين والمشجعات لفرق الخصوم وغالباً ما تتضمن هذه الأساليب لغةً خشنة فوقية عنصرية في كثير من الأحيان وقد تلجأين حتى لاستخدام مسبّات ذكورية تسخر من جنسك وتهينه وتعيره في معرض تعبيرك مثلاً عن غضبك من تصرفِ حَكَمٍ لم يعجبك أثناء لعبةٍ ما. الإناث في هذا النمط يتقمصنّ الدور بحذافيره فيظهر جلياً بلغة الجسد لديهنّ فطريقة جلوسهنّ تغدو ذكورية والتعبير عن فرحهنّ أو غصبهنّ أيضاً يتخذ أشكالاً ذكورية حتى إن أسلوب لباسهنّ يصبح صبيانياً، من تي شيرتات الصبيان إلى قبعات رؤوسهم إلى أحذيتهم وحتى اكسسواراتهم، وهكذا يصبحنَ متّهمات من الجميع بالصبينة والاسترجال. تدور نساء هذا النمط في حلقة مفرغة، فكلما أرادت أن تنتمي لتلك اللعبة بحريةٍ أكثر بعيداً عن وسمها بأحد الأنماط الأخرى، بالغت في إظهار إمكانية تبنيها لأنماط تشجيعية ذكورية، لكنها كلما أظهرت استعدادها هذا أكثر كلما اتُهمت بالاسترجال بشكلٍ متزايد وكلما صار المتوقع البديهي منها أن تغدو “مشجعاً ذكراً” بجسد امرأة، مما يقدم حلأ سهلأ أحادي القطب لجميع الأطراف من ذكورٍ وإناثٍ للتعاطي مع تشجيع كرة القدم بطريقةٍ لا تتحدى الأذهان الميّالة دوماً إلى مفهوم أحادية الهوية الذي يسهل للعقل البشري التعامل معه دون الكثير من التفكير، وهكذا تبقى كرة القدم اختراعاً ذكورياً بامتياز دون أية منافسةٍ جنسيةٍ أو جندريةٍ أخرى، لا في الملاعب ولا حتى على الصعيد المجتمعي أو النفسي.
- النمط الثالث – المتابِعة الأنثى الواقعة في شَرَك التشييئ Women objectification:
ربما تكون نساء هذا النمط هنّ الصورة الأكثر شيوعاً للـ”مشجعات” ولهذا فقد تركت الحديث عنهنّ للآخر، هنّ إناثٌ جميلاتٌ مغريات يرقصن ويغنين ويهتفن بغنجٍ ودلالٍ للفريق المحظوظ بوجودهنّ في صفوف مشجعيه. وكما أن الصورة النمطية للذكر الأقوى تستوجب وجود المرأة الأجمل والأكثر إغراءً ضمن ممتلكاته والتي ستبدو في عيون المراقبين وكأنها مكافأة القدر والمجتمع له على ذكوريته الفائقة وبالتالي فهي حتماً ستكون يافعة الشباب فائقة الأنوثة، و كذلك الأمر فيما يتعلق بفريق الكرة الأقوى والأكثر هيبةً وسيطرة على الملاعب والجماهير، سيكون لديه الإناث الأكثر شباباً والأكثر إغراءً وغنجاً بين صفوف مشجعيه، وسيصبح التنافس بين الفرق بحجم صدور مشجعاتهم وطول أفخاذهن وثخن شفاههن. مشكلة تشيئ المرأة هي ليست حصراً على مجال كرة القدم لكنها تظهر بقوةٍ كمثالٍ نمطيٍ واضحٍ جداً هنا تنطبق عليه العلامات الأربع الدامغة لهذه النزعة (تشيئ المرأة) بكل وضوح:
١- النساء هنّ من ممتلكات الرجل: وكذلك المشجعات هنّ من ممتلكات الفريق، يتحركن معه كبقية المعدات واللوازم ويأتمرن بأمر الفريق، وجودهنّ محصور بوجود الفريق وبقاء هؤلاء المشجعات على قيد الحياة مرهونٌ طبعاً ببقاء الفريق.
٢- يجب على الرجال أن يتنافسوا على النساء: لا أعتقد أن نقطة المنافسة يمكن أن تظهر بشكلٍ أكثر جلاءً عمّا تظهر به في مجال كرة القدم، ففرق الرجال يتنافس بعضهم مع بعض، وقد يحطم بعضهم بعضًا في أرض الملعب و الفائز فقط هو من سيستحق رقص وتهليل ودلع وغنج المشجعات الجميلات.
٣- النساء هنّ عبارة عن مكافأة للرجل الأكثر قدرة: هذه السمة تأتي كتابع اوتوماتيكي للسمة التي تسبقها، فكما في الحياة تكون المرأة الأكثر أنوثةً وجمالاً هي مكافأة الحياة للرجل الأقدر والأقوى، وكذلك المشجعات، فالفريق الأقوى سيتمكن من الحصول على المشجعات الأجمل والأكثر إغراءاً وسيتمكن الفريق الرابح من الاحتفاظ بهنّ إلى جانبه.
٤- الحدود الجندرية الفاصلة بين الرجال والنساء تكون صارمة جداً: كلّ يلتزم بشدة بالدور المنوط به، الرجل له لغته ولباسه وحركاته واهتماماته والمرأة لها لباسها و لغتها وحركاتها واهتماماتها التي لا تتقاطع ولا بأي شكل من الأشكال مع تلك العائدة للرجل ولا تزاحمه إطلاقاً، وكذلك المشجعات، ففي حين يبالغ اللاعبون بالظهور بمظاهر ذكورية مفرطة سواءً في أشكالهم أو في حركاتهم أو حتى في رواتبهم ومكتسباتهم المادية، تتقن المشجعات الحفاظ على الحدود الجندرية الصارمة فيبالغن بالظهور بصورة أنثوية بشكلٍ مفرط ابتداءً من ألبستهنّ إلى حركاتهنّ إلى لغتهنّ وحتى إلى رواتبهنّ ومكتسباتهنّ المادية.
لا تقف مشكلة النمط الثالث على التشجيع الاحترافي ولكنها تمتد ليكون بإمكان أي متابع عادي أن يساهم في الظاهرة، فيتبارى الرجال والنساء جميعاً إلى تداول النكات أو الصور أو التعليقات التشيئية المتعلقة بمشجعات فرقهم أو فرق خصومهم. وتمتد الظاهرة لتشمل متابعاتٍ عاديات ولسنّ ضمن فرق المشجعات المحترفات لكنهنّ مع ذلك يحذون حذوهنّ في لباسهنّ وحركاتهنّ، وخلافاً لإناث النمط الثاني المتبنيات لأساليب ذكورية في اللباس واللغة ولغة الجسد أثناء متابعتهن لكأس العالم، تتبنى إناث النمط الثالث أساليباً أنثوية مبالغاً بأنوثتها في اللباس واللغة المستخدمة ولغة الجسد في التعبير عن الفرح أو الغضب أثناء التشجيع والمتابعة بطريقة تحفظ للعبة ذكوريتها.
وهكذا، يستمر الجميع بتقوية ذكورية اللعبة وتشجيعها بنظام تغذيةٍ راجعة سلبية (واسمحوا لي أن أستعير هنا هذا التعبير البيولوجي فأنا قبل أن أصبح باحثةً اجتماعية كنت باحثةً بيولوجية وستبقى البيولوجيا تسكن عقلي الباطن مابقيت)، المهم، ما يحدث هنا هو فعلاً أشبه ما يكون بنظام تغذيةٍ راجعةٍ سلبية فكلما انخفضت مستويات الأنوثة في اللعبة كلما زادت الجموع المتابِعة لها من ضخ كميات زائدة من الذكورة فيها والتي بدورها تمنع ظهور أية علامات أنثوية، ويدور الجميع هكذا في حلقةٍ مفرغة.
لذلك لديّ لك كلمة أخيرة عزيزتي الأنثى التي تحبين كرة القدم وتحبين متابعتها، افعلي ما يحلو لك، شجعي من تحبين و نافسي من تحبين طالما أنّ هذا ما ترغبين به وهذا ما يجعلك سعيدة، لكن عليكِ برأيي أن تبدأي بخلقِ موقع قدمٍ أنثويٍ لكِ في هذه اللعبة دون أن يتم جرّك إلى أحد الأنماط الثلاثة السابقة …. عبّري عن رأيك وميولك وتشجيعك دون أن تساومي على هويتك الجندرية أو على كونك امرأة مستقلة لها ميولها التي لها حرية التعبير عنها و ممارستها بما يتناسب مع هويتها دون أية ضغوط. لو كنتُ شخصياً من المهتمات باللعبة لكنتُ ساعدتك في خلق تلك المساحة، ومع أني أعتذر هنا عن مشاركتك رحلتك التي سأتابعها إن بدأتْ بشغف، إلا أنّي آمل على الأقل أن أكون قد ساهمت في إضاءة الطريق.