مرحباً أديل … من فتاةٍ سورية!
كأيّ فتاةٍ انكليزية في بريطانيا أو في أيّ بقعةٍ في العالم، وكأيّ معجبةٍ بصوت وأغاني أديل، كنت بانتظار ألبومها الجديد على أحرّ من الجمر .. وقد شاهدت بنفسي بكثير من الغبطة الارتفاع المذهل لعدد المشاهدات لأغنيتها الجديدة “مرحبا” بين دقيقة وأخرى خلال الساعات الأولى من إصدارها على اليوتيوب حتى حطمت الرقم القياسي للأغنية الأكثر مشاهدة خلال ٢٤ ساعة … كان من الممكن أن تكون هذه الأغنية بالنسبة لي، كأيّ معجبٍ آخر لأديل، أغنيةً عاطفية جديدة .. لكن الحال لم يكن كذلك، فأنا سوريةٌ، وللسوريّ عينٌ أخرى يرى بها العالم من حوله …
تُفتتح مشاهد هذه الأغنية بحافة شباك قد علا زجاجَه الغبارُ والبقع حتى استحالت الرؤية من خلاله، وتراكم على حافته ما بدا لي وكأنه نحلٌ ميت … الكثير من بقايا تلك الكائنات التي تناثرت وتراكمت وكأنها بلا قيمة .. الكثير منها … والتي يبدو وكأنها ماتت انتظاراً خلف هذا الشباك المغلق … أو ربما في محاولةٍ للهرب إلى مكانٍ ما …. ثم فجأةً تتضح الرؤية عبر الزجاج، ونرى سيارةً قادمةً من طريقٍ بعيدٍ .. ثم نرى اديل تمشي، ونسمعها تقول: لقد وصلت هنا للتو لكنني أفقد الإشارة .. مرحباً .. هل تسمعني الآن .. ثم يبتعد الصوت ونسمعها تقول من بعيد عفواً لقد فقدتك .. ثمّ مجدداً وبصوت أوضح: “عفواً”
ثم نراها تدخل إلى ذلك المنزل الذي يبدو من مدخله وكأنه قد شهد أيام عزّ في الماضي …
محاولةٌ لنفض الغبار وكشف المغطى والمستور .. دقات ساعةٍ في الخلفية، توحي بأنّ الوقت قد بات ضيقاً …. نَفَسٌ عميقٌ لتبدأ الأغنية…
مع إشعال الموقد لتحضير كأسٍ من الشاي … “مرحباً!”
“هذه أنا .. كنتُ أتساءل إن كنت ترغب باللقاء بعد كلّ هذه السنوات لنتكلم عن كل شئ.”
بعضٌ من الشاي في فنجانٍ فاخر، يتصاعد منه البخار .. وكبريطانيةٍ أعرف تماماً أن لا شئ في الدنيا كلها يعادل شاياً طازجاً في فنجانٍ فاخر ليشعرك بالراحة وبأنك في بيتك … تستمع بأوقاتٍ جيدة … لكن المزاج العام للمشهد كما يصلني يشعرني بمرارة ذاك الشاي و يشير بوضوحٍ إلى أن هناك شئٌ ما ناقص!
“يقولون بأنّ الزمن كفيل ٌ بشفاء كل شئ .. لكنني لم أشفى”
ومع أول رشفةِ شايٍ في ذاك البيت، تعود الذاكرة لما كان في الماضي “بيتاً” … حيث يظهر الآن في المشهد شابٌّ أفريقي .. شابٌّ من الطرف الآخر!
يضحك هذا الشابّ لاعباً …. “مرحباً”
أوراقٌ كثيرة …فواتير … دفتر ملاحظاتٍ أو اتصالات، مع أرقام وعناوين … وربما بعض قوائم المهام اليومية المنزلية…
“أنا في كاليفورنيا أحلم بما اعتدنا أن نكونه … كنّا أكثر شباباً … وأحراراً … لقد نسيت كيف كنّا نشعر قبل أن ينهار العالم عند أقدامنا”
محاولةٌ جديدةٌ للاتصال … تبدو أديل وكأنها تترك رسالة صوتية .. مرتبكة .. مترددة … حزينة …
“ياله من فرقٍ شاسع بيننا …. وملايين الأميال”
تتنهد أديل مجدداً بألم، وتعود الذاكرةُ لأوقاتٍ بدت بعيدة، لكنها سعيدة .. عفوية .. بريئة .. فيها بساطةُ الفرح عندما تشاركا ذاك المنزل سويةً …
“مرحباً من الجانب الآخر … لقد اتصلت آلاف المرات … لأخبرك بأنني آسفةٌ على كل مافعلت … لكنّي كلما اتصلتُ بدا لي أنك لاتتواجد نهائياً في المنزل”
مزيدٌ من الذكريات … حيث يبدو لنا أن أديل تخوض حديثاً مع ذاك الشاب الذي كان في البداية يضحك …
“مرحباً من الخارج … على الأقل أستطيع القول بأني حاولت”
تتغير إيحاءات ملامح الشاب ليبدو وكأنه يطلب منها شيئاً ما … يبدو وكأنه يستغيث … يبدو لي واضحاً الآن أنه يطلب منها شيئاً ما … برجاءٍ وحرقة … وعندما فجأةً يجمع راحتي كفيه معاً تحت ذقنه تظهر كلمة “حماية” موشومة باللغة العربية على جانب يده … ونلمح طرف “قداحة” يطبق عليها داخل راحته … ويتبادر إلى ذهني مباشرة … “النار” … ثم يبدو الشاب ملوحاً بيده محذراً …. أحسست بأنّ حريقاً على وشك الاندلاع وأنّ كل مايطلبه هذا الشاب هو “الحماية”…
“حاولتُ أن أقول لك أنني آسفة … لأنني كسرتُ قلبك … لكن لايهم … فمن الواضح أنّ كلّ هذا لم يعد يمزقك بعد الآن”
نرى الشاب تحت المطر يدير ظهره خائباً ويمشي …
محاولةٌ جديدة للاتصال … هذه المرة يظهر في المشهد كشك الهاتف الانكليزي الشهير جداً … ذاك الكشك الذي يختزل بأناقةً الهويّة الانكليزية، تراه دوماً واقفاً بزهوّ شابٍّ وسيمٍ على زوايا الطرقات، جاذباً إليه السوّاح بكاميراتهم كما لو أنّ جدرانه الحمراء قد صُنعت من مغناطيسٍ بشري … يقف اليوم في أغنية أديل وحيداً وسط الغابة وقد علته الأغصان المحطمة وأحاط به ورق الخريف المتساقط …
“مرحباً … كيف حالك”
سماعة هاتفٍ متدليةٍ في الهواء … ولا أحد هناك!
“غايةٌ في النمطية منّي أن أتحدث عن نفسي، آنا آسفة …. ”
تعود الذاكرة للشابّ يجلس وحيداً على طرف السرير في ذاك البيت … يفرك يديه … يضرب كفّاً بكف .. مشتتاً… حائراً .. متألماً…
“أرجو أنك بخير … هل استطعت أن تنجو بنفسك من تلك المدينة التي لا يستجد فيها شئ على الإطلاق”
يبدو الشاب الآن غاضباً … إنه يتذمر… يقترب وجهه من الكاميرا أكثر … إنّه يصرخ … ثم فجأة … مايبدو أنه شال أديل، يصفعُ وجه الشاب … فيحني الأخير رأسَه بأسى من قد تلقى ضربةَ الخيبة ممن كان له يوماً المأمن …
نرى مايبدو وكأنه زجاجٌ ملطخٌ بدماء … وأديل تقول:
“هذا ليس سرّاّ … إنّ الوقت ينفذ منّا نحن الاثنين”
“إذاً مرحبا من الجانب الآخر … لابد و أنني اتصلت ألف مرة … لأخبرك بأنني آسفة على كلّ مافعلت”
“مرحباً من الجانب الآخر .. على الأقل أستطيع القول بأني حاولت …”
الشابّ تحت المطر يلوح مغادراً يائساً تارةً … ويدير ظهره تارةً، ويعود ليشكي … يغضب … يبكي … والمطر يبلله أكثر وأكثر…
“من الواضح أن شيئاً لم يعد يمزقك بعد الآن … بعد الآن … بعد الآن …”
أديل وحيدة في الغابة … اختفى كشك الهاتف من المشهد … لم يعد هناك غيرها … وغير صوتها الذي بلغ أعلى حدةٍ له خلال الأغنية … إنها تصرخ … لست أتوهم، نعم إنها تصرخ … تبدو لي عاجزةً، لكنها تصرخ أعلى وأعلى …
“آنا آسفة … على كل مافعلت”
“لابد وأنني قد اتصلت ألف مرة لأخبرك بأني آسفة …. لكن يبدو لي أنك لم تعد تتواجد في المنزل إطلاقاً”
ويضربني شعورٌ مزلزلٌ فجأة … يجتاح كلّ خلية في جسدي …
ربما يصعب علينا أن ندرك كم قد يشعر الكثير من البشر، من الناس العاديين مثلي ومثلكم حول الكرة الأرضية، بالأسف … وبالعجز … وبالخذلان من محيطهم … من مجتمعاتهم، ومن حكوماتهم … لكلّ مانمر به نحن السوريون … ولما وصلنا إليه جميعاً من حالٍ مزرٍ في هذا العالم المجنون …
“مرحباً من الجانب الآخر … على الأقل أستطيع القول بأني حاولت ….”
نرى الآن أديل وافقةً خلف زجاج نافذة المنزل الكئيب الوحيد … والشابّ أسفل النافذة في الطريق … تحت المطر لايزال … ينظر إلى الأعلى .. إليها خلف النافذة … يغلق هاتفه الجوال … لم يعد هناك ما يُقال، يهز رأسه بأسى، وكلّ كلمات الدنيا لاتكفي لوصف النظرة في عينيه … يغلق صندوق سيارته … ويرحل …
تنسدل الستارة على ذاك الشباك … عيني أديل … ثم تغيم الرؤية … تنتهي الأغنية!
من الجانب الآخر …. مرحباً أديل أنا أسمعك …. لم أعد أتواجد في المنزل لأنه لم يعد لديّ منزل … لقد احترق منزلي كما احترقت تلك المدينة عن بكرة أبيها …. مرحباً من الجانب الآخر … من طريق غربتي الطويل الموحش … لقد كان ذاك البيت جميلاً، دافئاً، وكان فيه متسعٌ لنا جميعاً … كان يمكنُ أن نحيا فيه سعداء … لكنّ كل هذا لم يعد يهم، فلا شئ سيمزقنا أكثر بعد الآن …
مرحباً من الداخل … مرحباً من الأرض المحترقة … سأخبرك أنني أيضاً آسفة … فجنون هذا العالم هو مامزقنا جميعاً … حتى غدا كلٌّ منا تعيساً في عزلته …
مرحباً …
مرحباً، يخطر لي سؤال …. أليس وارداً أنّ الأوان لم يَفُتْ بعد؟ …. يمكن أن يكون مازال هناك طريقٌ للعودة … مرحباً، هلّا مددت إليّ يدك لنمشيه سوياً؟ “
Nice coffee and beautiful song, and wonderful words.
Thanks Omar, enjoy!
I liked the idea, building a very nice writing based on a song, a nice song.
My eyes and mind enjoyed, as much as my ears did.
سلمت يداك.
I’m glad you liked it, thanks for your kind words 🙂
It’s the small details that are vital. .thank you for your creative touch, it adds more beauty to the song
Beauty is in the eyes of the beholder <3
Nice one ????
Thanks Omar 🙂
فكرة الصفحة جميلة جدا وترجمة الاغنية من وجهة نظرك كسورية معبرة تماما
شكرا لك وأرجو ان تستمري
شكراً نوران لكلماتك، يسعدنى أن الخاطرة أعجبتك … انتظري المزيد 🙂
كم جميل أن يكون للإنسان بيت يعود إليه بعد سنين رحيل .. ينفض عن مقاعده الغبار
لا يوجد في الدنيا ما هو أجمل!
جميلة هي كلماتك وحنين قلبك ظهر منها كما ظهرت روعة صوت وأداء أديل شكرا لنبلك ومشاركتنا مشاعرك وكتاباتك أتمنى لك كل التوفيق
شكراً نسرين لكلماتك الرقيقة
شي حلو كتير وفكرة ممتازة وبالتوفيق ياريم …
شكراً أحمد